منذ العام ١٩٤٨ وإسرائيل تعمل على تثبيت معادلة أساسية تقوم على تحييد مدنها ومنشآتها ومؤسساتها العسكرية ومجتمعها ومستوطنيها عن الحروب التي تخوضها، حيث لم يكن الداخل الاسرائيلي يشعر بأية خطورة جراء ما تقوم به حكوماته من عدوان إلا من بعض العمليات العسكرية التي كان ينفذها إستشهاديون فلسطينيون أو عرب للرد على المجازر التي كانت ترتكبها على مدار تاريخها الاجرامي.
مع إنطلاق العدوان الاسرائيلي على إيران ظن العدو أن إستهدافه القادة العسكريين من الصف الأول والعلماء النوويين والبرنامج النووي والرادارات ومصانع الأسلحة وبعض منصات الصواريخ سيؤدي إلى إرباك إيران وصولا إلى زعزعة نظامها وتأليب الرأي العام الإيراني على قيادته، وبالتالي ستقدم إسرائيل خدمة كبيرة لإدارة دونالد ترامب لجهة إضعاف إيران التي ستعود إلى المفاوضات مهزومة ومنكسرة.
لذلك لم يتوان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عن الإعلان عن أهداف هذا العدوان المتمثلة بإسقاط النظام في إيران وضرب المشروع النووي والقضاء على القدرة الصاروخية، وقد دخل دونالد ترامب على خط الاشادة بالعملية العسكرية الصهيونية معتبرا أنها “مثالية وقد تساهم في إنهاء البرنامج النووي الإيراني”، ما دفع إسرائيل ظهر يوم الجمعة الفائت وبعد العدوان الصباحي الغادر إلى مواصلة هجماتها، معتبرة أنها قادرة على مضاعفة الخسائر الإيرانية وعلى تحقيق أهداف نتنياهو الذي كان مزهوا وفخورا مع وزراء حكومته وأركان جيشه بالإنجاز العسكري الإسرائيلي (على حد وصفه).
لم يمر وقت طويل على العدوان الاسرائيلي على طهران، حتى تحركت الصواريخ الإيرانية باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإخترقت الدفاعات الجوية الاسرائيلية والأميركية على حد سواء وأصابت أهدافها في تل أبيب مركز الثقل التجاري والاقتصادي والأكاديمي والثقافي والسياحي والنووي للعدو الصهيوني، وقد توالت الصليات الصاروخية التي دمرت العديد من المنشآت في عاصمة الكيان ووصلت إلى القدس والى حيفا المدينة الأكثر حيوية وذات المرفأ الدولي الهام مستهدفة المنشآت النفطية وبعض المؤسسات الهامة.
لم يكن أكثر المتفائلين يظن أن مشاهد الدمار غزة وجنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت سوف تنتقل إلى تل أبيب وحيفا، حيث نجحت إيران في كسر المعادلة الاسرائيلية التاريخية والأساسية بإشراك المدن والمؤسسات والمنشآت ومراكز الأبحاث الاسرائيلية في تداعيات هذه الحرب وتدميرها وتحويل المستوطنين إلى أهداف ودفعهم إلى البقاء في الملاجئ فضلا عن تعطيل كل أوجه الحياة في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى أن وزارة الدفاع الاسرائيلية نشرت خارطة الكيان باللون الأحمر ما يعني أن كل الأراضي مهددة بالنار الايرانية.
لا شك في أن إيران إستوعبت الضربة الأولى وهي الأهم والأبرز على صعيد تحقيق أهداف العدوان الاسرائيلي، وبدأت صواريخها تصول وتجول في سماء فلسطين المحتلة تمهيدا لانقضاضها على الأهداف الحيوية وقد تصاعد الرد تباعا وهو من المفترض أن يتطور بشكل مطرد في حال إستمر العدوان الاسرائيلي على الأراضي والمنشآت الإيرانية، خصوصا أن الجمهورية الإسلامية تمتلك أنواعا مختلفة من الصواريخ البالستية والفرط صوتية التي باتت قادرة على إختراق الدفاعات الجوية في أي وقت، حتى أن مسؤولين إسرائيليين إستغربوا دقة الاحداثيات الإيرانية في إصابة الأهداف الاسرائيلية.
لا شك في أن كسر المعادلة الاسرائيلية وضرب المجتمع الصهيوني بشعبه ومؤسساته ومنشآته ومبانيه، ساهم في إرباك الحكومة الاسرائيلية التي تراجعت عن لغة الإنجازات العسكرية إلى مزيد من التهديد والوعيد وإعتماد البروباغندا الإعلامية لطمأنة الداخل الإسرائيلي الذي وبحسب رئيس بلدية بيت يام في تل أبيب “لم يكن ليخطر بباله أن يشاهد هذا الدمار في مدينته”.
كما أدى ذلك إلى وقوع الرئيس الأميركي في تناقض كبير في تصريحاته، فبعد أن وصف العدوان الاسرائيلي بالهجوم المثالي، أكد أن “أميركا قد تدخل الحرب إلى جانب إسرائيل”، وفي الوقت نفسه شدد على ضرورة “وقف هذه الحرب”، وتحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طالبا وساطته للعودة إلى الدبلوماسية، وكذلك عرض ترامب على إيران العودة إلى طاولة المفاوضات.
ولعل من عناصر القوة التي أظهرتها إيران هي رفضها العودة إلى المفاوضات، خصوصا أن العدوان الاسرائيلي عليها كان يهدف إلى إضعافها وقد عبر عن ذلك مسؤولون إسرائيليون بالقول أن “إيران قبل الهجوم ليست كما بعده”، في إيحاء بأنها قد تذهب إلى المفاوضات من دون أنياب، لكن إيران التي نجحت في تحقيق التوازن العسكري تتمسك ببرنامجها النووي إلى أبعد الحدود وهي لن تتخلى عن حقها الذي تعتبره مشروعا.
لذلك، فإن الرئيس ترامب قد يعطي نتنياهو المزيد من الوقت لتحقيق أهداف عدوانه على إيران، وفي حال صمود الجمهورية الإسلامية وإستمرارها في إيلام إسرائيل ومجتمعها بالصواريخ التدميرية اليومية، فإن ترامب قد يفعّل الدبلوماسية بالتعاون مع الدول الفاعلة، وصولا إلى تسوية تساهم في إيقاف الحرب، وتلحق هزيمة باسرائيل ونتنياهو على حد سواء قد تكون مماثلة لهزيمة طوفان الأقصى.