كيف تكتب قيادة نتنياهو نهاية إسرائيل؟
إذا بدنا نفهم هذا الانزلاق التاريخي لازم نراجع مجموعة من النظريات العسكرية والسياسية والاجتماعية التي تُفسر كيف تنقلب القوة إلى عبء، والانتصار إلى فخ، والتوسع إلى سقوط. وما أكتبه هنا ليس تطبيعًا مع الألم، ولا زرعًا لوهم، ولا تجميلًا للهزيمة. بل محاولة لقراءة المشهد بهدوء كما هو: بعقل بارد، وبصيرة ساخنة، وقلب لا يُخادع نفسه.

أولًا: فرط التمدد (Overextension) كلما توسعت دولة خارج حدودها الجغرافية والديموغرافية بشكل يفوق قدرتها على السيطرة، فإنها لا تتجه نحو القوة، بل تنزلق إلى ما يُعرف في الأدبيات السياسية بفرط التمدد. هذا المفهوم يشير إلى لحظة تتجاوز فيها الدولة قدراتها الفعلية، فتفتح جبهات وصراعات لا تستطيع إدارتها، ما يؤدي إلى إنهاكها ثم تفككها لاحقًا. المثال الأوضح على ذلك: ألمانيا النازية. بعد أن أسقطت فرنسا ووقّعت هدنة مع السوفييت، ظنّت أنها حسمت أوروبا. لكنها اندفعت في عام 1941 نحو غزو الاتحاد السوفييتي طمعًا في نصر كاسح، وانتهى بها الحال إلى الهزيمة وسقوط برلين في أقل من أربع سنوات.

ثانيًا: وهم النصر (Victory Delusion) عندما تظن الدولة أن سلسلة انتصاراتها الجزئية تعني حسمًا كاملًا، فيدفعها الغرور إلى المغامرة الكبرى. هنا يتحول النجاح التكتيكي إلى فخ استراتيجي. ما حدث مع ألمانيا يحدث الآن مع إسرائيل: تصورٌ مفرط للسيطرة يقود إلى قرارات توسعية انفعالية. ظنت تل أبيب أن مبادرتها في غزة ولبنان وسوريا تعني تفوقًا مطلقًا، فانزلقت لمواجهة إيران مباشرة، في لحظة لا تحتمل هذا النوع من المقامرة.

ثالثًا: إرهاق القوة العظمى (Great Power Fatigue) تعبير يُستخدم لوصف الحالة التي تصل إليها الدول الكبرى حين تصبح قوتها عبئًا بدل أن تكون رصيدًا. دولة صغيرة من حيث السكان والجغرافيا، بلا عمق استراتيجي حقيقي، تحاول أن تلعب دور اللاعب الإقليمي الأول، فتُرهق مؤسساتها السياسية والعسكرية، وتستنزف حتى داعميها. فائض القوة حين يُستخدم بشكل غير متوازن، ينتج استنزافًا لا انتصارًا.

رابعًا: فخ الحروب متعددة الجبهات (Multi-Front Warfare Trap) قد يبدو فتح أكثر من جبهة في وقت واحد علامة على المبادرة، لكنه يتحول إلى كارثة حين تفشل الدولة في السيطرة على أي جبهة. إسرائيل الآن منخرطة في غزة، ولبنان، وسوريا، وهلق إيران.. وعم بتواجه تهديدات من اليمن والعراق. تعدد الجبهات أضعف مركز القيادة، وأربك قدرة الجيش على إدارة الموارد والرد بفعالية.

خامسًا: كلفة تتجاوز العائد (Cost exceeds Gain) كل معركة جديدة تخوضها إسرائيل تكلفها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا أكثر مما تُحقق لها من مكاسب. الشرعية تتآكل، الهيمنة تُستنزف، والمجتمع يدخل في حالة توتر دائم. الانتصارات اللحظية تتحول إلى عبء مستمر.

سادسًا: النصر القاتل (Pyrrhic Victory) وهو نصر يتحقق عسكريًا لكنه يُفقد الدولة توازنها الداخلي ومقومات بقائها. هو كالفوز في معركة تتركك غير قادر على خوض الحرب التالية. إسرائيل ربحت جولات، لكنها تفقد قدرتها على المواصلة.

وفي هذا السياق، نسترجع تحليل ابن خلدون في لحظة سقوط الدول. يشبّه نهاية الدولة بوميض القنديل قبل انطفائه. التوهج الأخير، البريق الكاذب. إسرائيل اليوم في ذروة سطوتها، لكنها تحترق في قلب هذه الذروة. تتوسع أكثر مما تملك، وتقاتل أكثر مما تحتمل، وتُمعن في فرض الهيمنة بينما تفقد السيطرة. ولذلك، لا بد أن نقرأ هذا المشهد من مسافة. لا للتطبيع مع الألم، ولا لتزيين الخسارة، بل لفهم مسار الصراع. لأن المقاومة الواعية لا تهتف فقط، بل تحلل وتبني وتهيئ نفسها لليوم التالي.

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا.
مُنى حوّا

إقرأ أيضا (مقالة سابقة للكاتب):