– تعيش ملفات الحروب والأزمات التي أخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب على عاتقه حلها بالتفاوض، حالة من الانتقال السريع من التشاؤم إلى التفاؤل وبالعكس، فهذا ما يحصل في الملف النووي الإيراني، وفي الحرب الأوكرانية، وفي حرب غزة، وكلما بدا أن هناك طرحاً جدياً لتسوية قابلة للحياة أو مناخ من الانفراج أو اقتراب من بناء أرضيّة للثقة وتبادل مقترحات تتيح التقدّم في المفاوضات، يحدث شيء يعيد الأوضاع إلى مركز التعقيد، وليس خافياً أن لهذا التعقيد يداً تحرّكه في واشنطن، كما هو حال التلاعب الذي شهده مشروع الاتفاق حول غزة، بصورة جعلته غير قابل للحياة، وافتعال التجاذب الذي تمّ إدخاله في فقرة تخصيب اليورانيوم على خط التفاوض مع إيران، وصولاً إلى الضربة في العمق الروسيّ التي تهدّد بقلب طاولة التفاوض حول أوكرانيا، ومحاور التفجير والتصعيد والتلاعب الثلاثة بيد أميركيّة.
– تتربّص بقايا الدولة العميقة في أميركا بإدارة ترامب، في حرب وجود دائرة بينهما، وتجنّد معها المحافظين الجدد في الإدارة، وينضمّ إليها اللوبي الصهيوني الداعم لـ”إسرائيل”، بعدما قرّر الرئيس ترامب أن الحل مع إيران لا يكون إلا تفاوضياً وتراجع عن التمسك بالبنود الإسرائيليّة في التفاوض المتمثلة باشتراط تفكيك البرنامج الصاروخيّ ووقف دعم قوى المقاومة، وبعدما جاء الاتفاق الأميركي مع اليمن على وقف إطلاق النار بمثابة صفعة مزعجة لقادة كيان الاحتلال، وثلاثي الدولة العميقة واللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد، يملك أدوات وقدرات التحرك تحت مظلة الإدارة ويمثل إحراجاً لشعارات ترامب، الذي لا يستطيع أن ينفصل عن دعمه لـ”إسرائيل” ولا أن يعارض شروطاً تفاوضية متشدّدة مع إيران ومن ضمن الملف النووي مثل تخصيب اليورانيوم، أو أن يعترض على عمل عسكري أوكراني ضد روسيا يقدّم بمثابة ردّ على ضربات روسيّة مؤلمة انتقدها ترامب نفسه.
– خطاب ترامب عملياً يمثل أرضية مناسبة لما يقوم به ثلاثي الدولة العميقة واللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد، فكل تصريحاته ومواقفه تشكل مصدر الخطاب الذي يتحرك على أساسه هؤلاء، وهم في الملف النووي الإيراني يستخدمون كلماته، وفي وجه روسيا يوظفون تصريحاته، وفي حرب غزة ومشاريع الاتفاقيات ينطلقون من خطابه، لكن ما سوف يترتب على سيادة هذه الازدواجية هو إحباط مشاريع التسويات. فالضربة التي تلقتها روسيا في مطاراتها الاستراتيجيّة لن تمر دون رد قويّ سوف يتكفل بإطاحة فرص التفاوض، والتمسك بوقف تخصيب اليورانيوم سوف يؤدي الى فشل التفاوض، وبناء مشروع اتفاق حول غزة يعبر عن رؤية بنيامين نتنياهو لن ينجز اتفاقاً، وسوف يكون على ترامب مواجهة تحديات العجز عن الانخراط في حروب فاشلة، والعجز عن منع نشوب الحروب، والعجز عن وقف ما هو مشتعل منها.
– مهما تذاكى ترامب سوف يكون عليه عاجلاً أم آجلاً إذا أراد التفرّغ لإعادة بناء أميركا وضمان الاستقرار خارجها، أن يحسم الأمور علناً لصالح أولوية التسويات التي لا تلبي الشروط على الحروب التي لا ثقة بالفوز بها، وما دام من الثبات أن الحروب لا أفق للفوز بها، لا في غزة ولا في أوكرانيا ولا مع إيران، فإن البديل هو تسويات لا تلبي الشروط، تسويات يقبل بها الخصم، لأنه مهما غازل بوتين، سوف يبقى ترامب رئيس الدولة التي أشعلت الحرب على روسيا، وروسيا لها شروط يجب تحقيقها كي تقف الحرب، وكذلك إيران، وكذلك في غزة، حيث يفشل بنيامين نتنياهو وفلاديمير زيلينسكي في ربح الحروب لا يستطيعان القتال بقوة أميركا ولا يستطيعان الاشتراط على أميركا للقبول بالتسوية أن تحقق لهما أهداف الحرب.
– لم تكن إيران تضع في حسابها فرص تفاوض جدّية مع أميركا وهي تواظب على سياستها بالتعامل مع معادلة استمرار القطيعة والعقوبات، وتمضي في برنامجها النووي إلى الأمام، ولم تكن روسيا تضع في حسابها فرص حل تفاوضيّ، وهي أنجزت ما يلزم للانتقال إلى مراحل متقدمة في الهجوم وربح الحرب، أما غزة فلن يصيبها من فشل الاتفاق الحالي اكثر مما سوف يصيبها من تطبيقه، والمعروض عليها نصف الأسرى مقابل هدنة تسقط بعد الإفراج عن آخر أسير في اليوم السابع، وعلى ترامب إذا أراد تحقيق برنامجه بالتفرّغ للداخل الأميركي أن يحسم أمره حول قبول تسويات منصفة للخصوم والأعداء كي يضمن قبولهم، وهم أقوياء كفاية كي لا يقبلوا.

أ.ناصر قنديل