زيارة ترمب لعدد من دول الجزيرة العربية لها دلالات عديدة في الشكل كما في المضمون.

فالملاحظة الأولى هي أن هذه هي أول زيارة سياسية يقوم بها الرئيس الأميركي بعد وصوله الى البيت الأبيض لولاية ثانية. لم يزر روسيا، او الهند، او الصين، أو دولتيّ الجوار الأميركي ككندا والمكسيك اللتين هي في قمّة سلّم الأولويات في العمل الدبلوماسي. المهم هنا هو أن الزيارة كانت لمنطقة على فوه بركان وتهدّد بانفجار شامل يطيح بما تبقّى من مصالح للولايات المتحدة في غرب آسيا والمشرق العربي.
الملاحظة الثانية هي اختلاف الظروف للزيارة الثانية للرئيس الأميركي للمنطقة عن تلك الزيارة السابقة في 2017. آنذاك أتى بمشروع سياسي للمنطقة تحت عنوان صفقة القرن والاتفاقات الابراهيمية التي تلت تلك الزيارة. وظروف تلك الزيارة يمكن تلخصيها في التحالف العدواني على اليمن وهزيمة جماعة الغلو والتوحّش والتطرّف في سورية. كما أن الزيارة سبقتها محطة للرئيس الأميركي في الكيان والتشاور مع رئيس حكومة العدو. اما الزيارة الثانية التي حصلت منذ أسبوع فلم يحمل الرئيس الأميركي مشروعا سياسيا، ولم يتوقف عند محطّة الكيان. كما أن ظروف الزيارة تختلف عن السابقة. فالعدوان الدولي على اليمن قد توقّف منذ بضعة سنين والبحرية الأميركية فشلت في تحقيق أي هدف من الأهداف العسكرية والسياسية لترويض اليمن ما يعني أن السيطرة على البحار الخمسة (الأحمر، الخليج، غرب المحيط الهندي، بحر العرب، والمتوسط) لم تعد في يد الولايات المتحدة، بل في يد اليمن الذي يصعد من مرتبة دولة فقيرة إلى دولة وازنة في موازين القوة والمعادلات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.
الملاحظة الثالثة هي تلازم غياب لأي مشروع سياسي للمنطقة كان من الممكن أن يحمله الرئيس الأميركي إلى المنطقة مع غياب الحديث عما يحصل في غزّة وعموما عن مستقبل القضية الفلسطينية. وغياب الحديث في ذروة الإبادة الجماعية التي تحصل في غزّة والصدمة الهائلة التي تشكّلها في الرأي العام العالمي بما فيه في الولايات المتحدة يثير الريبة والاستنكار والادانة. ولكن هذا دليل أيضا عن عجز الإدارة الأميركية رغم كل التصريحات النارية على اقناع دول الجزيرة العربية في التماهي مع مشاريع التهجير أو مختلف الحلول المقترحة التي لا تحاكي جوهر قضية الاحتلال الصهيوني.
الملاحظة الرابعة هو صمت دول الخليج “المانحة” حول ما يحصل في غزّة وكأن الامر لا يعنيها لا من بعيد ولا من قريب. لم نر أي محاولة لمقايضة مشاريع الاستثمار برفع الحصار على غزة على سبيل المثال وليس الحصر. فهل كان ذلك لعدم احراج الرئيس الأميركي مقابل عدم طرحه ضرورة التطبيع؟ من الواضح في كلام لولي العهد في بلاد الحرمين أعلن الرئيس الاميركي أن “موعد التطبيع” متروك لتقدير الظروف الموضوعية التي تسمح بذلك وبما أن موقف بلاد الحرمين واضح فإن لا تطبيع إلا بعد قيام دولة فلسطينية. لذلك خرجت فلسطين من معادلة المقايضة للتعاون الاقتصادي وخاصة التكنولوجي النووي بين المملكة والولايات المتحدة. في هذه النقطة يمكن اعتبار الحصول على المعرفة التكنولوجية والنووية مكسبا لبلاد الحرمين دون الدفع الفاتورة السياسية المسبقة بالتطبيع. هذا دليل إضافي على مدى تنامي الاستقلالية في القرار السياسي والاقتصادي في بلاد الحرمين الذي يأتي في سياق قرارات عديدة لم تكن لتحظى على رضى الولايات المتحدة خاصة في التقارب مع الجمهورية الإسلامية في إيران أو في عدم تجديد القرار بتسعير برميل النفط بالدولار وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.
الملاحظة الخامسة هي التركيز على بُعد الصفقات المالية والتجارية التي تشكّل حجر الزاوية في تفكير الرئيس الأميركي لأنه يعتقد أنه يجيدها. لكن الأرقام الضخمة التي تمّ نشرها والتداول فيها تصطدم بعدد من التساؤلات والعقبات. فمن جهة هل تستطيع الولايات المتحدة استيعاب تلك المبالغ وهل للدول “المانحة” قدرة على تقديم تلك المبالغ؟ الإجابة على ذلك السؤال تتطلّب بحثا منفصلا لا يتسع لنا الخوض فيه في هذه المقاربة. يكفي أن نشير أن المبالغ التي أعلن عنها في زيارة ترمب الاولي في 2017 لم يستثمر منها إلاّ أقل من 60 بالمائة مما أعلن عنه (أقل من 200 مليار من أصل 500 مليار وفقا لمعهد دراسات دول الخليج في واشنطن). كما أن المبالغ المعلن عنها في الزيارة الأخيرة (أي أكثر من 3 تريليون دولار) تستدعي وجود بنى تحتية وقدرات إنتاجية في الولايات المتحدة غير متوفرة حاليا بسبب سياسات سابقة أدّت إلى تفكيك البنية الصناعية. وأخيرا، إن الاستثمار في التكنولوجيات المتقدمة بما فيها الذكاء الصناعي وليس حصرا بها تستوجب إعادة النظر في البنية التربوية في الولايات المتحدة التي أصبحت متردّية ومتراجعة مقارنة مع دول العالم.

واعتبر الرئيس الأميركي أن النظام التعليمي في الولايات المتحدة الاسواء في العالم (وكالات الانباء في 9 آذار 2025) وأن كلفة التعليم العالي هو الأعلى في العالم. وهناك احصائيات أكثر بلاغة كنسبة القراءة والكتابة التي كانت سنة 1955 97 بالمائة بينما في 2025 أصبحت حوالي 79 بالمائة، أي تزايدت نسبة الامية في الولايات المتحدة حيث واحد من أصل خمس اميركيين لا يستطيعون القراءة والكتابة. بالمقابل كانت نسبة الامية في الصين سنة 1955 حوالي 85 بالمائة وربما أكثر بينما في 2025 أصبحت نسبة الامية في الصين اقل من 3 بالمائة، وذلك وفقا لدراسة أشار إليها المحلل الجيوسياسي وضابط الاستخبارات السابق لاري جونسون على موقعه “سونار” في 15 أيار 2025.
من ضمن الصفقات التي تمّ التكلّم عنها اعلان دولة قطر عن رغبتها شراء 200 طائرة من شركة بوينغ، التي تعاني حاليا من مشاكل داخلية في الإنتاج. فرئيس شركة يونايتد ايرلاين الأميركية هدّد بإلغاء اتفاقيات شراء طائرات بوينغ بسبب التأخير في تسليم الطائرات في المواعيد المحدّدة (وكالات الانباء في كانون الثاني 2024). وهذا التأخير يعود لعدّة أسباب لا داعي الخوض فيها إلاّ انها تعكس مرضا يشمل العديد من الشركات الصناعية التي أصبحت مهتمة برفع قيمة أسهمها في البورصة الأميركية أكثر من الاهتمام على الإنتاج بالجودة والمواعيد. فحتّى صفقات تجارية عادية مهدّدة بسبب التقاعس البنيوي في الشركات المنتجة. في هذا السياق نشير إلى حادثة تؤكّد تقييم معهد دراسات دول الخليج في واشنطن التي اكّدت عدم تنفيذ معظم الصفقات التي أعلن عنها في 2017. ففي ندوة نقاشية في معهد بروكينغز أقيمت في 2018 وكنّا من الحاضرين فيها صرّح كبير الزملاء في المعهد ريتشارد بوليت وهو ضابط استخبارات سابق ومسؤول في البنتاغون أن حتى الساعة، أي 2018، لم تتلق وزارة الدفاع الأميركية قائمة بالأسلحة التي تريد شراءها بلاد الحرمين. ولم يكتف بذلك، بل صرّح أنه “يصلّي” ان لا تصل تلك اللائحة لأن لا قدرة للشركات المعنية بالالتزام بسبب التأخير في الإنتاج! فما بال عن صفقات قد تصل بالتريليونات إذا كانت حقيقية!
وإذا سلمّنا جدلا أن الولايات المتحدة تستطيع استيعاب تلك المبالغ يبقى السؤال هو قدرة الدول المانحة على تقديم تلك المبالغ. فالناتج الداخلي لبلاد الحرمين وصل إلى حوالي 1،1 تريليون دولار في 2024 بينما الناتج الداخلي للإمارات لم يتجاوز 535 مليار دولار ودولة قطر 235 مليار دولار أيضا في 2024 وذلك وفقا لإحصاءات أصدرتها جامعة الدول العربية. بلاد الحرمين قد تقدّم 600 مليار كاستثمارات على مدة عشرة سنين بينما تعهدت دولة الامارات ودولة قطر بتقديم أكثر من 2،5 تريليون دولار. فهل تستطيع الدولتان أن تقتطع من ناتجها الداخلي ما يوازي نصف الناتج الداخلي سنويا لاستثمارات لم تحدّد تفاصيلها وجدواها وهذا على حساب أولويات محلّية وإقليمية لا تستطيع التخلّي عنها في المدى المنظور؟
من جهة أخرى يزعم الرئيس الأميركي أن تلك الاستثمارات ستخلق ما يوازي 2 مليون وظيفة في الولايات المتحدة. فإذا كان ذلك التقدير صحيحا فهذا يعني أن كلفة إنشاء كل وظيفة تكون حوالي 1،650،000 مليون دولار. هل هناك جدوى اقتصادية لذلك الاستثمار؟
هذا يأخذنا إلى مقاربة الرأي الداخلي الأميركي لزيارة ترمب. ما لفت نظرنا هو اصدار مؤسسة مودي تقييما لقيمة الائتمان لسندات الخزينة الأميركية حيث تمّ تخفيض الرتبة من AAA الي AA1، وذلك في اعقاب الزيارة مباشرة. التوقيت يثير الريبة والمضمون رسالة من الدولة العميقة للرئيس الأميركي. فشركة مودي، كأخواتها شركة ستاندارد أند بور وشركة فيشت مملوكة من أكبر خمس مجموعات لمحفظات مالية كشركة بلاك روك وفانغارد وفيدليتي وستيت ستريت وبركشاير هتاوي التي تملك أكثر من 50 من القيمة الرأس المالية في البورصة الأميركية، أي أكثر من 28 تريليون دولار من أصل 54 تريليون قيمة جميع الأسهم المتداولة في البورصة. وهذه الشركات من مكوّنات الدولة العميقة التي تضم المجمّع العسكري الصناعي والاعلام ومراكز الأبحاث. والشركات التابعة للدولة العميقة مملوكة من قبل هذه الشركات مما يعني أن ما يصدر عنها من قرارات له تداعياته السياسية. فتخفيض رتبة الدين الأميركي يعني تقويضا لقدرة الاستدانة للدولة الأميركية. وهذا يعني أن قدرة تمويل العجز في الموازنة الأميركية يزداد صعوبة، ما يعني تنفيذ اجندة إدارة ترامب يصبح مهدّدا. فهل تجاوز الرئيس الأميركي خطوطا حمراء استوجب توجيه الإنذار؟ وما هي تلك الخطوط الحمراء؟
في نهاية المطاف فإن اعلان الرئيس الأميركي أن زيارته للجزيرة العربية هي لجلب الأموال لتحسين المشهد الاقتصادي في الولايات المتحدة هو إقرار عن ضعف في المشهد الاقتصادي الأميركي.

كما أن العجز عن تقديمه لأي إغراء سياسي أو اقتصادي يُذكر للدول المعنية يدلّ على أن الولايات المتحدة في حالة تراجع شامل وبحاجة إلى أموال دول الجزيرة العربية وبالتالي أكثر من حاجة الدول الجزيرة إلى الدعم الأميركي. فهذا يعني أن المزيد من مراجعة خيارات وسياسات في دول المنطقة هي قيد التحقيق وخاصة بعد هزيمة البحرية الأميركية في البحر الأحمر على يد الحوثيين ما يعني أن الهيبة الأميركية لم تعد كما كانت في 2017. وبالتالي فإن مجريات الأمور في الأسابيع والأشهر المقبلة قد تكون حبلى بالمفاجئات الإقليمية في غرب آسيا والمشرق العربي.

د.زياد الحافظ

باحث وكاتب اقتصادي سياسي