عن علي بن أبي طالب عليه السلام.. احذر مجالسة قرين السوء، فإنه يهلك مقارنه، ويردي مصاحبه …
في كل زمان يتوجّب الحذر من مهلكة قرين السوء وبما وصلنا اليه في هذا العصر من وسائل استحمار للإنسان في معركة الحرب الناعمة وجوب الحذر يتعين أكثر. أضحت برمجيات الصور النمطية خطرا يعمل على سلب اختياراتنا بكل الطرق من الصدمة الى سياسة القطيع ومنه لكي الوعي ليقتل فينا كل فعل إيجابي لنصبح مجرّد أوعية تلقّي لهذه التشوهات السلبية،والفرق بين الزمنين في الوسائط والمصفوفات ستردي أصحابها الىى قعر الاستحمار بأصفاد الجهل المركّب …
يقع اللوم الأكبر بما يجري على نخبنا التي ترتزق لإدخال الهزيمة والصدمة بسلاسة الى ذاكرة وعينا الجمعي…
هو الفعل الكاشف عن ذهنية ساقطة تستبطنها هذه النخب وتراكمها شعوبنا بسبب تقصير حكوماتنا لدفع الضرر، وتأمين عناصر القوة التي تمكّن الإنسان من الدفاع عن ذاته ومقوّمات حياته لمستقبل أفضل…
في مصنع هذا الافتراضي للمعارك الذي أصبح يتحكم في واقعنا نجد كرنفال الأوهام الموجّه. وسيلة كبرى لسياسة القطيع .لذلك فحرب اليوم لم تعد تتطلب ترسانة عسكرية؛ فوسائل توجيه القطيع تتقدم بشكل سلس وناعم، يتم تنفيذها بدهاءٍ ومكر، لكنها على نعومتها مدمّرة للانسان بنفس القدر وأكثر…
معركة يرتكز فيها العدو على يقين أنّ قدراتنا على التمييز فقدت، ممّا يمكّن من التحكم في منسوب تحريك القطيع بالوهم، والمعلومات المزيفة، وإن لزم الأمر بمتلبّس لدور القداسة وهو شيطان أكبر حتى تحولت هذه الوسائل للمخاتلة وتزييف الحقيقة طاغية وغالبة .ناهيك حين تُغلّف بالذكاء اصطناعي لفوضى السردية…
أصبح الاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي يمنح هذه الحرب الصامتة نطاقًا غير مسبوق من الخديعة. القادر على إنتاج آلاف الرسائل والصور ومقاطع فيديو وأفلام وثائقية قبل أن يرتد إليك طرفك وكله يدار بزيف ودهاء ، كل هذه الوسائل تعمل على تسميم مدونة معلوماتنا وبديهيات حياتنا التي خلناها من القطعيات وعايشناها بفطرة في السياسة والمجتمع والثقافة والدين والتربية والتعليم ..
هذه الحرب الناعمة يتم فيها تزييف الحقائق باللعب على مصطلحات لغوية وهويات رقمية وهمية لتوجيه محركات البحث بالكمي لا بالكيفي لتقديم ما يطلبه المتابعون ، هكذا حوّل الذكاء الاصطناعي التزييف من تهمة بشعة إلى صناعة سردية ، وأصبحت مجتمعاتنا مختبر متقدم لهذا التلاعب بينما الغرب لا يزال يتعامل مع هذه الوسائط بالكثير من الحذر والحيطة خشية ان يفقد مصداقية الأطر القانويية التي كرّسها لزمن طويل …
هذه «الحرب الناعمة» لا تهدف إلى بيع بضاعة وشراء سلع أو إغواء أنفس فحسب؛ بل تعمل على مسخ مقوّمات الفرد وتفتيت المجتمعات، واشعال الحروب، المذهبية والدينية والعرقية والجهوية. هي استراتيجية أبلسة هجينة تجمع بين المعلومات المزورة و تحريك غريزة العنف لتكون النتيجة بما يرغبون…
مسؤولية تنفيذ هذه الحروب الناعمة اسندت إلى مؤثرين من اعلاميين وفنانيين ورياضيين وسياسيين ومتلبسين بالدين وغيرهم ممن أصبح نمط يمكن ان يتبعه الجمهور ليلعب صاحبه أقذر الأدوار فماكينة هذه الحرب لا تعمل مع غير هؤلاء …
ليس العيب في جماهيرنا بانسياقها للكذب والتزوير، لأنهم حضّروا لهذا الدور وان كان غير ذي فائدة يرتجى منه. ما حصل هو إغراق الفضاء العام بقصص وهمية حدّ التناقض تسيئ للتوازن العقلي والاخلاقي والنفسي يسعون من خلالها إلى تدمير القدرة على التمييز بين الحق والباطل وان كانت ضد المقدسات التي خلناها من المحرمات ونسف قاعدة الحسن والقبح العقلي التي نتميز بها عن الدواب ويختص بها ابن آدم فهي من فطرة الخلق القويم لتمييز متاهات الصراط المستقيم …
ما وصلنا اليه من مستوى مخيف للقطيع، جعلنا بضاعة مزاجات قابلة للتبلّد والتبادل والتغيير والبيع معروضة على رفّ الارتزاق، لمن يدفع أكثر…وان كانت الشبكات العنكبوتية وهي أوهن من بيت العنكبوت التي تتحكم في العالم …
إن وعي المجتمعات يُضرب في المقتل حين يغزو الوهم والخرافات والتنجيم والتزييف عقولها وتفقد السيطرة على فهم واقعها فمشاكل الواقع لا تحل بالوهم وعلى هذا الحال سنراكم الازمات لتصل الى حدّ الانفجار ومعركة الاستحمار من أهم وسائلها نزع سلاح العقل ونفي دوره …
تساق المجتمعات الى مربعات معارك جانبيّة ضررها وخيم، تستَنزف فيها حدّ النخاع ليكتشف في الأخير أنّها حطب محارق لمعارك الغير لم يتحقّق شيئ من تطلّعاتها. هذا المستوى من التيه والاستحمار يبقيها خارج دورها المطلوب ودون مستوى محطاتها التاريخيّة…
لم يعد يكفي التنديد بالتلاعب بعقول القطيع بل يجب أن تفتح ورشة عمل كبرى لتصحيح المسارات وإيقاف النزيف. والنصر الحقيقي في حروب السرديات لا يكمن في الحلول المؤقتة والتسويف، بل يبجعل كل حقيقةٍ غير مؤكدةٍ مرفوضة عقلا ونقلا، في هذا المحيط المشبع بالسرديات المتنافسة حدّ التقزز، تُصبح القدرة على الحفاظ على الحدّ الادنى من المصداقية هي مسألةً حيويةً تتعلق بقيومية الانسان على نفسه لديمومة بقائه سالما…
بتنا الآن أكثر من أيّ وقت مضى بحاجة الى التوقف لمراجعة مناهج برامجنا لسلوكيات الأفراد التي يقوم عليها المجتمع ولدراسة شاملة لحالات التخلف التي وصلنا اليها وتحولت الى هزائم سياسية وتفكك اجتماعي وتهاوي ثقافي وافلاس اقتصادي …
بعد أن قالت الليبرالية الغربية بما هي «نهاية التاريخ» حين أعلنت أنّها في الآن ذاته النظام الذي سيرث الأرض وما عليها بهذه الوسائل ، على أمتنا أن تلتحق بركب المواجهة لبداية تاريخ ناصع لمن سيرث الارض ومن عليها وهذا وعد الله والله لا يخلف وعده …
لا أحد ينكر أنّ الدول السائرة في ركاب هذه الليبرالية قد استطاعت إلحاق أذى غير قليل بالانسان الذي يقف ضدّها، لكنها عاجزة عن تحقيق الهدف الأهمّ، المتمثل في القضاء نهائيا على فطرة الانسان السليمة … وهي صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) سورة البقرة
حسن فضلاوي