ليست فكرة طرد سكان غزة والضفة الغربية وتهجيرهم بالقوة، وليدة الساعة عند الإسرائيليين، وبالذات عند نتنياهو بعد طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023. إذ أنّ طرد الفلسطينيين من فلسطين التاريخية، وأيضاً طرد السكان العرب من بلدانهم المحيطة بفلسطين، لهو التزام صهيوني وتوراتي، تبنّاه زعماء الحركة الصهيونية، وقادة «إسرائيل» منذ تأسيسها وحتى اليوم. هذا الالتزام لم يزح ولم يتراجع عنه حكام «إسرائيل»، ولا أحزابها اليمينية، والدينية واليسارية.
لقد زعم العديد من المفكّرين الصهاينة، أن الصلة بين الشعب اليهودي وأرض الميعاد «ظلت حتى العصر الحديث تستقي من الدين قبل أيّ ينبوع آخر». كما يعتبرون أنّ هذه الصلة كانت تنتظر تحقيق الوعد الإلهي وفق ما جاء في سفر التثنية (1/20): «يرد الرب الهك سبيك ويرحمك فيجمعك من جميع الشعوب الذين بددك إليهم يهوه الهك، أن يكون قد بددك إلى إقصاء السموات فمن هناك يجمعك الرب ومن هناك يأخذك ويأتي بك الرب الهك الى الأرض التي امتلكها آباؤك فتمتلكها».
استناداً إلى المفهوم الديني والقومي اليهودي، يرى الصهاينة «أن بني إسرائيل لم يطردوا إلا بصورة مؤقتة، وفقًا لأحكام ميثاق دهريّ يقول: «أعطي أرض كنعان حبل ميراث لكم، ولسوف يذكر الرب ذلك العهد وهذه الأرض أيضاً إلى دهر الداهرين». (الأحبار 26-42).
هذا «الوعد» دفع بموسى النخماني وهو أحد كبار التلموديين ليقول في شرحه للأسفار الموسوية الخمسة، متجاهلاً كلياً حقائق التاريخ: «أنّ أرض إسرائيل لم تقبل ساكناً آخر ما دام بنو إسرائيل في المنفى، وأنّ أرض الميعاد منذ أن هجرها اليهود لم تقبل أيّ أمة أخرى، رغم أنّ جميع الأمم حاولت احتلالها دون أن تفلح واحدة منها في ذلك»! هذا التفكير العنصريّ الذي تأصّل في العقل اليهودي، اختزل وقائع وحقائق تاريخ فلسطين الممتدّ من عام تشتت اليهود قبل 28 قرناً وحتى قيام دولة الاحتلال عام 1948.
إزاء ما يجري حالياً من إبادة جماعيّة، وتدمير شامل يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة المشرقيّة، نتساءل بمرارة عما إذا كان قادة وزعماء العالم العربي مدركين ومقتنعين تماماً، من أنّ هناك تهديداً وجودياً «إسرائيليلً»، لا يقتصر على فلسطين بل يتعداها، أم أنهم استسلموا للأمر الواقع «الإسرائيلي»، ليرضخ العديد من القادة والزعماء أمام عدو مجرم، شره، شرس، آثر على شنّ الحروب، وهو يتقدّم ويتوسّع، يقضم الأراضي العربية ويضمّها إليه، متحدياً العالم كله، ومجتمعه الدولي ومنظماته الأممية، غير مبالٍ، ولا عابئ بحكام العرب، ولا مكترث بوجودهم وردود أفعالهم الهزيلة.
إذا كانت «إسرائيل» وهي في قمة جبروتها تدوس كلّ بيانات القمم، والمؤتمرات، ولا تعير أيّ أهمية لتصريحات، ونداءات الزعماء العرب، ولا تكنّ لهم أدنى اعتبار أو أهمية، فلماذا تتزاحم دول عربية على التطبيع معها والاعتراف بوجودها والتنسيق والتعاون معها؟! من أجل مَن تتنافس دولهم على شراء السلاح وتخزينه؟! لمَن كلّ هذه الترسانة العسكرية وضد مَن؟! ألِمواجهة العدو؟! ليقولوا لنا صراحة مَن هو هذا العدو الذي يستعدون لمواجهته، وكيف! عندما يخصص العالم العربي سنوياً موازنة عسكرية للدفاع تتجاوز 160 مليار دولار، فيما موازنة الدفاع لثلاث دول عربية تبلغ 100 مليار دولار، فما هو الهدف من ذلك؟! هل من أجل الحماية الذاتية حيث القواعد العسكرية الأجنبية تجثم على أراضيها! هل القادة العرب ما زالوا على يقين واقتناع، بأنّ «إسرائيل» لا تنفك عن كونها العدو الذي يشكل عليهم الخطر الأكبر، أم أنها أصبحت عندهم «حمامة السلام»، ودولة «إبراهيمية» شقيقة لا غنى عنها؟!
ألم يلفت نظر المطبّعين والمهرولين من قادة العرب، ما طالب به نتنياهو ويأخذ به، ويسير عليه، في كتابه «مكان بين الأمم»، أنه مقابل السلام الذي تريده «إسرائيل»، يتوجب على العرب» أن يتنازلوا عن أراضٍ لـ «إسرائيل»، وأن وضع «إسرائيل» داخل حدود ما قبل 1967 لا يمكن القبول به… وأنّ الأنظمة العربية التي تملك مساحات كبيرة من الأرض، يتوجّب عليها تقديم تنازل ضئيل مقابل «التنازلات» الكبيرة التي قدّمها اليهود… وأنّ دولة فلسطينية مثلها مثل اليد الممدودة لخنق شريان الحياة لـ «إسرائيل»، لذلك ليس غريباً أن تجد معظم الإسرائيليين يرفضون فكرة الدولة الفلسطينية هذه، ويرون فيها خطراً مميتاً للدولة (إسرائيل)… وأنه كي تستطيع «إسرائيل» الدفاع عن مدنها، يجب عليها أن تحتفظ بالسيادة العسكرية على كلّ منطقة الضفة الغربية»!.
ليس هناك من دولة في العالم تعامل عدوّها، كما تفعل دول عربية مع المحتل الإسرائيلي، الذي يمارس احتلاله واعتداءاته المتواصلة وجرائمه ضد الإنسانية بحق دول وشعوب عربية، ويتربّص بها للانقضاض عليها وتدميرها في أيّ وقت. ومع ذلك، تزحف باتجاهه، وتستجدي رضاه، في الوقت الذي يستبيح دولاً عربية، يعتدي عليها، يقوّضها، ويقتل شعوبها، ويرتكب بحقها أبشع المجازر، في ظلّ غياب قرار عربي حازم موحد، يعبّر عن شرف وكرامة شعوبها، ووسط صمت عربيّ مريب، حتى وصل الذلّ والخنوع والانبطاح للبعض إلى مستوى مخيف لا يفك شيفرته إلا العدو الذي يعرف ظاهر من يتعامل معهم وباطنهم.
إذا كان هذا هو الواقع العربي المزري، فما هي الجدوى إذن من تخزين السلاح العربي، وما الغاية منه؟! ولأجل مَن؟! وضد مَن؟! وفي خدمة مَن؟! أهو للحماية؟! ومِن مَن؟! أهو لمواجهة العدو، وأيّ عدو، ومَن هو هذا العدو؟! ام أنّ هذا السلاح خصّص كي يكون وقوداً لإشعال الفتن، والفوضى، والاقتتال داخل دولنا العربية؟! من وراء حركات الإرهاب، والاقتتال الذي اشتعل ماضياً، ويشتعل حاضراً في فلسطين، ولبنان، والصومال، والعراق، والجزائر، وسورية، واليمن والسودان، وليبيا؟! هل الترسانة العسكرية الهائلة للدول العربية ناجمة عن الخوف من «إسرائيل» أم من الخوف من بعضنا البعض، أم أنها نتيجة «الخوّة» التي تفرضها الدول الكبرى لتغذية خزاناتها المالية، ومصانعها الحربية ومنها بالدرجة الأولى الأميركية والأوروبية؟!
إنه عالم عربيّ فاقد توازنه، تائه بين الأمم، يتلاشى وسط الدول، لا يرتقي بيدين ولا يهبط برجلين. يسطر صفحة سوداء من تاريخه، يعجز عن حماية الأوطان، ووجودها، وكرامتها، ومستقبل شعوبها. عالم عربي يترنّح، آيلاً للسقوط والانهيار، والتمزق، طالما الوعي الوطني والحسّ القومي، والتمسك والدفاع عن قضاياه المحقة والعادلة يتراجع، في الوقت الذي ينتشر على أرضه العملاء، ويتكاثر فيه تجار المبادئ والأوطان، ويندر فيه القادة والرجال!
يا مَن تبقى مِن القادة الرجال! أوقفوا الانحطاط الكارثي الرهيب الذي يطلّ علينا جميعاً، فلا وقت للسكوت والدموع، والخنوع، والأسف، والبكاء على الأطلال. عالم عربي بكلّ دوله، إنْ لم تنقذوه، سيدفع ثمن الهوان، والانبطاح والركوع لقوى الهيمنة، والتسلط، والعدوان، وسيلحق الذلّ بدولنا جميعها الواحدة تلو الأخرى.
غزة تحتضر، والضفة الغربية تفترس، وسورية تبعثرت، وليبيا تجزأت، والعراق دخل في الفدرلة، ولبنان يتخبّط في مستنقع الاحتلال، والسودان تمزّق، واليمن دمّر، والصومال تقطّع، ودول تنتظر دورها على قارعة الطريق، ليتمّ سلخها على مسرح الثنائي الأميركي ـ الإسرائيلي، بحضور المشاهدين من عجزة العالم العربي!
كم كانت مقولة المناضل الأمميّ تشي غيفارا محقة عندما قال: لولا خونة الداخل ما تجرّأ عدو الخارج على وطنك!
لذلك تتجرّأ «إسرائيل» على فعل كلّ شيء، تتمادى في عدوانها وجبروتها، واحتلالها، وجرائمها على الساحة العربية، واضعة الأمن القومي العربي في مهب الريح رغم أنف الجميع، طالما هناك مَن يغازلها، ويهرول باتحاهها،
ويمدّ لها يد العون!
لا تسألوا بعد اليوم كيف سقطت الأندلس، وكيف احتلت السلطنة العثمانيّة المستبدّة بلادنا لأربعة قرون، وكيف تأسّس الكيان «الإسرائيلي» المؤقت، وكيف تمكّن من أن يهزم بعد سنوات من تأسيسه، دولاً وجيوشاً عربية مجتمعة؟!
راجعوا سيرة العديد من القادة والحكام العرب، الأموات منهم والأحياء، ستجدون تفاصيلها الوافية عند «الإسرائيلي»…
د. عدنان منصور
الناشر:جريدة البناء اللبنانية