خاض حزب الله حرب اسناد لغزة، ضد إسرائيل، واتت نتائجها كارثية عليه، بحيث تمت محاصرته من عدة جهات، داخلية وخارجية.

تكبد الحزب خسائر بشرية بلغت أكثر من 7200 شهيد وجريح، بينهم كبار قادته، وأمينه العام السيد حسن نصرالله، الذي كان له رمزية كبيرة داخل وخارج الحزب، وأهم شخصية قيادية، في محور المقاومة ومواجهة مشاريع الهيمنة الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة.

وهناك خسائر مادية باهظة على المستويين العسكري والمدني، فإسرائيل قامت بعملية تدمير شامل لقرى بأكملها في الجنوب، وكذلك طال القصف بيروت والضاحية الجنوبية والبقاع، وصولاً إلى الحدود السورية إضافة إلى جريمة تفجير البيجر، فلأول مرة يتم تفجير اجهزة مخصصة في الأصل للاستخدام المدني، ولقد تضرر جراء ذلك عدد كبير من المدنيين، غير المقاتلين في الحزب، وهذه تُعتبر جريمة حرب ارتكبتها إسرائيلي.

كذلك خسر الحزب جزءاً من الدعم الإيراني، الذي كان يصله عبر سوريا، وكذلك الدعم العسكري السوري بعد سقوط نظام بشار الاسد، بحيث كانت تُشكّل سوريا عمقاً استراتيجياً ولوجستياً مهماً للحزب.

كما أن إيران بوجود الرئيس بزشكيان تراجعت خطوة إلى الوراء، ليس فقط لجهة دعم حزب الله في المواجهة مع إسرائيل، بل أيضاً في علاقاتها مع الولايات المتحدة الامريكية، وسياسة دعم حلفائها في المنطقة، والتوجه الجديد لبناء علاقات جيدة مع الغرب.

لقد خسرت إيران الكثير في هذه المواجهة، التي فاقمت التضخم الاقتصادي في داخلها بشكل كبير، وانهارت العملة الإيرانية، وفقدت ايران المصدر الأساسي لإدخال العملات الصعبة، خاصة بيع الغاز والنفط، فهذه الدولة التي تملك ثروات طبيعية بمئات تريليونات الدولارات، تعيش في حالة فقر وترهل اقتصادي وتخلّف كبير، في عدة قطاعات كاستخراج وتكرير النفط والخدمات الاجتماعية والرفاه.

لقد فعلت العقوبات الامريكية فعلها، وفشلت إيران في تجاوز هذه العقبة، ورفضت كل الشركات الأوروبية وحتى الصينية الاستثمار في قطاع النفط الإيراني، خوفاً من العقوبات، وعدم القدرة على تسويق الانتاج.

واليوم بات هذا القطاع يحتاج إلى أكثر من 500 مليار دولار لترميمه وتحديثه، ولا يمكن تنفيذ ذلك سوى بعد رفع العقوبات. ثم حصل الأسوأ بسقوط النظام السوري، الذي انفقت عليه إيران أكثر من 57 مليار دولار، إضافة إلى عدد كبير من الشهداء.

اهم العناصر التي يقوم عليها حزب الله هي؛ الايديولوجيا الدينية، ومصادر التمويل، والقوة العسكرية، وفي حال فقد أحد هذه العناصر، سيواجه الحزب خطراً حقيقياً، وتراجعاً في دوره وحضوره على الساحة اللبنانية وفي المنطقة.

صحيح أن حزب الله استخدم سطوة السلاح، وزاد من قوته وقدرته العسكرية، وبات قوة إقليمية لا يستهان بها، لكن الآن تغيّر الوضع، فلم ينجح السلاح المتوافر لديه في منع إسرائيل من تدمير جزء كبير من لبنان، ولذلك باتت قيادة الحزب، على قناعة بأنه يجب وقف هذه الابادة التي ترتكبها إسرائيل بحق لبنان والبيئة الشيعية، بأي ثمن، فوافق الحزب على تسوية ليست في مصلحته، واعطت إسرائيل القدرة على فرض شروطها على الحزب ولبنان، وها هي تستبيح سيادة البلد وتفرض عليه الاحتلال، وتعيث فيه قتلاً ودماراً، وتُنفّذ الاغتيالات وتُصدر الأوامر والتهديدات.

لا يمكن لحزب الله أن يخوض حرباً جديدة مع إسرائيل، بنفس الطرق القديمة، وإذا كان لا بد من المواجهة، فعليه تطوير نفسه، وقاعدة بياناته وأسلحته بشكل كبير، وهذه باتت مهمة صعبة، تحتاج إلى وقت وإلى التمويل الكافي.

في فن الحرب يجب على القائد أن يتمتع بالقدرة على المناورة، فيعرف متى يتقدم ومتى يتراجع، ويختار الوقت المناسب لمناوراته، فالمكابرة والعناد يشكلان خطأً قاتلاً في غالب الأحيان.

لم ولن يفقد حزب الله الايديولوجيا التي يقوم عليها، فهي ليست مجرد فكر سياسي، بل الجزء الأكبر منها هو عقائدي ايماني، يقوم على مرتكزات دينية ثابتة لا تتغيير، وعناصره ملتزمون بها بشكل تام.

أما بالنسبة لسلاح الحزب والجناح العسكري، فهو تعرض لضربة كبرى وخسائر عديدة ، لكنه على عكس ما يعتقد البعض، فالحزب لم يفقد قدراته، وكان يقاتل حتى اليوم الأخير، وصمد على الحافة الأمامية، ومنع 70 الف جندي إسرائيلي من احتلال قرى ومدن تقع على الحافة الأمامية، مثل الناقورة وبنت جبيل والخيام، وما زال يملك كمّاً كبيراً من الصواريخ والمسيرات والذخائر، ومصانع ومنشآت محمية تحت الأرض.

لكن من ناحية أُخرى، يتعرض الحزب لضغوط كبيرة من أجل تسليم سلاحه للجيش اللبناني، والتخلي عن فكرة المقاومة، والتحول إلى حزب سياسي، والاندماج في الدولة.

لقد تضررت البيئة الشعبية الحاضنة للحزب بشكل كبير، وبات هناك نقاش داخلي حول جدوى استمرار الحرب ضد إسرائيل، نيابة عن الدولة اللبنانية والعرب ودعماً للمقاومة الفلسطينية، وكل ذلك على حساب الحزب والشيعة ولبنان.

قدم الحزب وما زال يقدم معونات، وبعض التعويضات للمتضررين من الحرب، لكن بعد تراجع ايران ونجاح الضغوط الدولية، في منع وصول أموال ايرانية إلى الحزب، وكذلك في ظل تقلّص موارد الحزب الذاتية، بدا واضحًا أن الحزب يعاني مشكلة صعبة في إرضاء جمهوره، خاصة غير الحزبيين، وأولئك الذين تكبدوا خسائر مادية كبيرة، ويطالبون الآن بتعويضات عادلة.

اضافة إلى هذه المسائل يبدو أن الشيخ نعيم قاسم، غير قادر على سد الفراغ الكبير الذي تركه استشهاد السيد حسن نصرالله، وبعض التصريحات التي ادلى بها زعماء الحزب، أعطت صورة عن عدم تماسك القيادة، وسرت شائعات عن خلل في الهرمية، لكن الحزب يؤكد أنه تم سد الفراغات في سلسلة القيادة، ومعالجة الأمر بشكل تام ونهائي.

تدرك قيادة الحزب ما حصل، وحجم الضغوط التي يتعرض لها هو والدولة اللبنانية، وبالتالي لا بد من إيجاد حل لمسألة السلاح، فبناء الدولة لا يستقيم مع وجود سلاح خارج سلطتها، وهناك شبه إجماع وطني على ذلك، ولا خيار أمام الحزب، سوى التخلي عن سلاحه.

لكن منطق الدولة لا يستقيم مع جيش دون سلاح، وما يحصل اليوم من استفزازات إسرائيلية للجيش اللبناني، توضح بما لا يقبل الشك، ضرورة تسليح الجيش، فالرهان على الدبلوماسية والولايات المتحدة الامريكية، في مسألة الصراع مع إسرائيل، وإجبارها على احترام سيادة لبنان، وتنفيذ القرارات الدولية، لم ولن تُجدِ نفعاً.

لكن ومن ناحية ثانية، فإن مسألة تسليح الجيش، بما يلزم لمواجهة إسرائيل، أمر مكلف للغاية، فلا الدولة اللبنانية قادرة على تمويل ذلك، ولا امريكا ستسمح بتزويد الجيش اللبناني بأسلحة متطورة تهدد إسرائيل.

من جهة أُخرى يدرك الحزب حجم تمثيله الشعبي، ورغبة مناصريه في استمرار دوره على الساحة اللبنانية، خاصة في ظل النظام الطائفي في لبنان، ومحاولات البعض لكسر الحزب وإقصائه، ومحاصرة الشيعة، وقد كان مشهد التشييع للأمين العام الشهيد حسن نصرالله، وخليفته السيد هاشم صفي الدين، رسالة واضحة، عبّرت عن تمسّك البيئة الشيعية بخيار المقاومة وحزب الله.

صحيح أن إيران نفذت خطوة تكتيكية إلى الوراء، لكنها لن تتخلى عن حزب الله، ولا مصلحة لها في ذلك، وستستمر في دعمه، وقد تكون القوة الديموغرافية للحزب، والطائفة الشيعية تحديداً، أكثر أهمية من السلاح، خاصة في اللعبة الديموقراطية، هذه الديموقراطية التي لا بد أن يرتضيها الجميع، كأفضل الحلول المتاحة، بدلاً من الاقتتال والحرب الأهلية.

يطالب حزب الله بتطبيق اتفاق الطائف كاملاً دون انتقائية، بمعنى أن تسليم السلاح، ليس البند الوحيد في الاتفاق، بل هناك تطبيق بنود أخرى، أهمها انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وتشكيل لجنة الغاء الطائفية السياسية، وإنشاء مجلس شيوخ، وهذه مطالب تلتقي حولها شريحة واسعة من اللبنانيين، وطالب بها بالأمس، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي تيمور جنبلاط.

لكن هذه البنود تشكَل تحدياً كبيراً أمام لبنان، ويعلم الجميع حجم الخلافات، وحتى أن البعض يرى أنه يستحيل في المرحلة الحالية إلغاء الطائفية السياسية، وهذا يعني استمرار الصراع الطائفي في لبنان، بين من يريد التمسّك بدولة الامتيازات والمحاصصة الطائفية، وبين من يريد دولة مدنية، استناداً إلى ما اتُفق عليه في الطائف، بعد حرب أهلية، دامت أكثر من 15 عاماً.

في المحصلة يمكن القول أن حزب الله باقٍ مع أو بدون سلاح، كما أن المشكلة اللبنانية باقية ومستمرة، طالما بقي النظام الطائفي وبقيت الأحزاب طائفية، وتقاتل من أجل مصالح طوائفها المنقسمة، بدلاً من الاتحاد لتحقيق مصلحة الوطن، وإن أكثر ما يخشاه اللبنانيون اليوم، هو مغالاة البعض وتشددهم في مواقف سياسية متطرفة، تشبه العودة إلى مقولة: “فلتكن الحرب وليربح الأقوى” التي دمرت لبنان منذ عام 1975.

اكرم كمال سريوي