حين يتلاقى الطوفان مع الأسطورة، ويولد الزمان من جديد على ثرى المعركة، حيث سقطت آلاف الأرواح، وأسطورة أخرى تُكتَب على جبين الأرض، تتجسد لحظة لا يمكن أن تموت. هناك، في لحظةٍ عميقة، ارتقى جسدٌ لم يُصنع من لحمٍ ودمٍ فحسب، بل من غضب الكون نفسه. لم تكن السيوفُ هي التي تصادمت، بل كانت نيرانًا لا تُطفأ، وعواصفَ لا تهدأ، وصوتًا يكتب في أبعاد الزمن كل معنى من معاني المجد. كان الجسد فانيًا، لكن الروح لم تكن كذلك؛ بل كانت ترفرف فوقنا كروحٍ أبدية، تلامس قلوب البشر وتغسل أرواحهم في تيارها المستمر.
كان الطوفان، الذي انطلق من جذرٍ قديم، يتغلغل في كل زاوية، لا يترك خلفه سوى الأطلال والأشباح. لم يكن الوقت الذي مرَّ على هذه الأرض كأي وقتٍ آخر. كانت اللحظة التي وُلِدت فيها قلوب الشجعان، وكان أبا خالد الذي ارتقى فيها إلى ما وراء الحدود. جسدٌ يتلاشى، لكن الروح لم تكن لتتلاشى. هناك، في الأفق البعيد، كان ثمة شبحٌ يتأرجح على حواف الوعي، يشاهد العالم يتجدد بدمٍ جديد، دمٍ يروي الأرض، ويزرع الزهور في مكانٍ لا يوجد فيه إلا الخراب.
كيف يمكن للزمن أن يتوقف في حضرة الأبطال؟ كيف تسكن الحياة نفسها في شخصٍ واحد؟ كيف تقف الرياح أمام كيانٍ أُعِدَّ ليجتازها؟ لم يكن في المعركة خوفٌ من الجيوش، بل كان في أتونها شعلةٌ لا تنطفئ، ولم تكن السيوف سوى ألعابٍ في يد القدر، يكتب بها أسطورةً جديدة في سجلٍ أزلي. لا أحد يمكنه أن يحسب المسافات، ولا حتى يستطيع أحد أن يعيد تلك اللحظة، حيث لم يكن هناك فارق بين الحياة والموت، بين السيف والريح، بين الأرض والسماء. كانت فوضى مجيدة، فوضى تتبعها عبير الحرية.
لم يكن جسد أبا خالد قد مات، بل كان قد انصهر في الكون كالنجم الذي لا يزول، وتحول إلى طيفٍ لا يمكن إيقافه. كان يُلاحق الأعداء في حروبهم الداخلية كما في أحلامهم المظلمة. وكلما حاولوا أن يدفنوا هذا الطوفان في زاويةٍ نائية، كانت روحه تنتفض، تنتشر عبر عقولهم المظلمة، تضيء كل خطوة لهم في سبيل الهروب من الحق.
لا، لم يكن قد مات، بل كان يتجدد في كل لحظة، في كل فكرة جديدة، في كل قلب ينبض بالثورة. كان مجده أبديًا، لا يُطال. اسمه أصبح هو الحقيقة نفسها، والشجاعة التي تمسكت بها الأجيال بعده. كانت كل موجةٍ ترفرف فوق الأرض تحمل كلماته، وكل خطوةٍ تُخطَط بأقدامه في المستقبل المجهول، تمامًا كما كان يفعل في أيامه.
سلامٌ على سرّك الذي لا يزول، على ظلك الذي لا ينطوي، على الذاكرة التي لم تُنسَ، على الأفق الذي أصبح ملكك. سلامٌ عليك يا أبا خالد في حضرة الغياب، في ذلك المكان الذي لا تسكنه الأوهام، حيث تتعانق الحروب مع السلام، ويظل اسمك محفورًا في الزمن الأزلي.
خالد دراوشه – الاردن