“قم يا حسين العلــَـم، افتح نوافذ تاريخنا المُغْلقة، وارفع أوراقك والقلمْ،
سمِّ البلاد بأسمائها، واحرث المستترْ، لطّــِخ لحيّ الظلام بآثامهم، وانتصـــِرْ”
“الشهيد شكري بالعيد”
تتطاير روح الثور المجنح، تعلو، تعلو، تحلق في سماء ملبدة، تتلوى ألمًا، كيف يسقط نسرٌ تحت معاول البشاعة والجهل، والسقوط أبدًا لم يكن في طبيعة النسر. هو الثابت في الأرض منذ اللفظة الأولى للزمن، هو الرابض في نينوى ولم يترك المكان ولم يرهب القتال والحرب. مرَّ التتار من هنا ومرَّ رعاة البقر وأمطرت سماؤه حممًا ونيرانًا وأحجارًا مستعرة، لم يخفْ ولم يَهَبْ. من يحمي المدينة بعده وكان لها خيرَ الحصن والدرع والحرس؟، ومن يرد الأعداء بزمجرة الأسد؟، ثور هو وكذا أسد ونسر وبشر وربٌّ في السماء منزله وعلى الأرض موطئه، من سيشهد للتاريخ وعلى التاريخ من بعده؟، فالكون يعرفه من أول نفس إلى أن أتاه الأعراب والعجم وقطعان المتوحشين والنجس.
يرفع أبو تمام رأسه المقطع على تربة الموصل، دماؤه تتسلق أسوار سومر وتتحدى مدينة النمرود وتحتمي بكنيسة القديس يوسف والقديسة سارة، هناك تحت الأرض تتنقل بين ما خفي من القصور السبع، لم تقوَ أشلاؤه على احتمال آلام الثور الدامي، يشهق أبو تمام بكاءً، فينفجر شعرًا :
“خَلِيفَة َ اللَّهِ جازَى اللَّهُ سَعْيَكَ عَنْ
جُرْثُومَة ِ الديْنِ والإِسْلاَمِ والحَسَبِ
بصُرْتَ بالرَّاحة ِ الكُبرى فلمْ تره
تُنالُ إلاَّ على جسرٍ منَ التَّعبِ”*
وينتفض نزار في تربته والمعري يحاذيه: “أبا تمام .. أرملةٌ قصائدُنا .. وأرملة ٌكتاباتُنا .. وأرملةٌ هي الألفاظ والصور.. فلا ماءً يسيل على دفاترنا.. ولا ريحًا تهبُّ على مراكبنا ولا شمسًا ولا قمرًا.. إذا كنا سنسرق خطبة الحجاج والحجاجَ والمنبر ونذبح بعضنا بعضًا لنعرف مَن بنى الشعر فأكبر شاعر فينا هو الخنجر..”**
ها هو أبو العلاء يعتذر منك ومن الأمم ومن أهل الفن والشعر والأدب، لا عقل بقي فينا ولا بصر، ولا علم ولا فكر، نحن من جنى على أنفسنا وهذا الزمن فاض به الكأس من حريق وسبيٍ ونحرٍ ولم يعد يحتمل، فلو كان الخمر ينسينا ما استفقنا من السكر، همهمَ أبو العلاء وللصوت صدى: “إن الشرائع ألقَت بيننا إحَناً.. وأورثتنا أفانينَ العَداوات
وهل أُبيحت نساء القوم عن عُرُض…للعُرب، إلا بأحكام النُبوات؟”*..
كليمة أنا بعد سقوطكم، ونُوَاحِي يخترق السحب، يا من أراجيزهم كانت لنا بهاءً وجمالًا ونقشًا في الهواء وعلى الرخام والحجر. لم تَسقط أبا العلاء ولا أنت أبا تمام من الذكرى ولا من دفاترنا والكراريس والكتب. لا ولن يهزمكم الأعراب وتجار النفط والمحن. لم يرحل الحداد، مازال حيًا والثرى مزارٌ من الأنوار بعد أن كان نسيًا منسيًا، وامرأته لم تلبس الحداد بل لفَّت جسدها بأحمر العلَم، تذود عن البلاد بأظافرها وتجود بجدائلها لإعدام من غدروا ومن سلبوا ومن قتلوا، امرأة الحداد بدايات جديدة، فلن تسقطوا أبدًا ومن هنا سيبدأ الزمن.
ما تبقى لنا ؟..
من العامرية إلى نينوى إلى معرة النعمان، إلى اللاذقية ودير معلولا، كان باردو آخر إحدى المحطات وليست نهايتها، هناك استشهدت قصائد فرجيل برصاصهم الغادر فصرخ فيهم وهو يجمع أبياته: العراق العراق، رد البياتي : العراق العراق “انظر رفيقي، بعرفانٍ للبدايات الجريئة”*. تعانقا كلاهما في شَجنٍ وبكيا حتى التعب، وفي المتحف رجع الصدى، العراق العراق، سومر، أشور، وأور ونيبور وبابل وبغداد وأوروك، وقلقامش قاهر العذارى وبطل خلود الوجود.
كنا هناك، نتوجّس سقوط القرى والمدن، كنا هناك كأهل الكهف لا علم ولا خبر، هل نحن بشر مثل باقي البشر أم نحن حجر. مر زمن ونحن نبحث عن زمن لنا، نلتقط الأخبار وعروض البورنوغرافيا الداعشية المثيرة للعجب، نتلذذ بقتلنا واحمرار دمنا، ونترحم على الشهداء، نعدُّ القتلى، ندفن صرخات الثكالى واليتامى في التراب ونغسل دموعهم في خوفٍ وجبنٍ وحياء، ننزعج قليلًا لتلبُّدِ الهواء بدخان الانفجار وانصهار فكرنا في الفكر البليد القديم الجديد. لا شيء يغير ما فينا، ننطلق للنوم في هدوء، لا قبل مشاهدة العروض الجديدة لانتصارات الكهنوت وهتافات حماة مشروعية الجهل وسيلان الدماء من أجل السماء..
نشرب قهوتنا في صباح جديد، نأمل ونتأمل، ما الذي يغيرنا أو يغير القادم فينا، لا شيء في الانتظار سوى نشرات الأخبار عن فتوحات جديدة للخوارج وحالات للاحتضار. لا شيء في الانتظار، سوى هذا السياج من الضباب والغبار، وامرأة الحداد في مواجهة الحصار، ترتدي بزة المقاتل وترفع صوتها عاليًا: الويل والويل لكم ، وابل من وشم البدايات وورد الروايات القديمة وأنامل حية وسهام من صديد، أنا مفتاح للزمن الجديد.
*أبا تمام / نزار قباني / *أبي العلاء المعري / ****فرجيل.
هند يحي – تونس