‎يتشبث الفلسطيني بفلسطينيته كطفل يقبض على يد والدته، لإدراكه أن فقدانها سيفقده ذاته وهويته ليختفي بين الجمع ويذوب بينهم، فتراه وقد حوّل تلك الهوية حالة حضارية وجدانية يعيشها بكل جوارحه.
‎تدخل بيتاّ فلسطينياً، فتحضنك خريطة “البلاد” بشوق أمٍ لم تيأس من رجوع أبنائها من غربة طالت. تجلس على أريكته، لتجد يديك تتلمسان وسادة عتيقة حاكت قطبها إحدى الجدات بخيوط من الحب والتراث الأصيل، فتتنقل عيناك بين ألوان وأشكال الغرز التي تميز كل بلدة عن أختها، لكنها تضم في نسيجها قصة وطن صامد أمام محاولات الطمس. قد تشتم رائحة الكعك المخبوز طازجاً، لتتناوله وأنت تسمع قصص النزوح والبطولة وبعض الترويدات والملالات التي أبدعتها الأمهات لإيصال الرسائل إلى أبنائهن في سجون الظلم والعدوان. وإذا ما قابلت فلسطينياً في الشتات، فإنك ستدرك أنه يرى في هويته طوق النجاة في عالم ظالم يحاول دؤوباً اقتلاعه من جذوره؛ ستجده يستغل أول فرصة ليخبرك من أي بلدة فلسطينية شامخة هو، وأي شارع منها كان يتخذه ورفاقه ملعباً لكرة القدم ولاصطياد جنود الاحتلال بالحجارة والتحدي. سيتحدث معك بلهجته ليباغتك بمصطلحات لا يعرفها إلا الفلسطيني “الكح”. ستذهب إلى عرسه وترى السيدات يتمايلن على الألحان الفلسطينية بأثوابهن الملوّنة بألوان الحياة، وترى الشباب بكوفيّاتهم يدبكون ويغنّون للحرية والوطن المسلوب، ولسان حالهم أنه لا بد من أن نرابط على حدود الذاكرة كما نرابط على حدود الوطن. سيذكر لك الشهداء من أهله وجيرانه وأصحابه وهو يتلو أسماءهم بنفس خشوع تلاوته لآيات الله، فهم في حرمتهم كمثل المسجد والكنيسة والتراب المقدس. سيرسم لك بثقة المنتصر صورة قطعة الأرض التي سيبني عليها بيته الصغير ويزرع فيها دالية العنب وشجر الزيتون بعد التحرير، فهو على الرغم من بيت العزاء الفلسطيني المفتوح منذ ستة وسبعين عاماً، لم يتخل يوماً عن الاحتفال بالحياة. سترى في عينيه شرر نار الثأر لكل من ارتقى باسم فلسطين، فلسطينياً كان أم لم يكن، ففي معركة الحق والباطل إما أن تكون فلسطيني الهوى أو أن تكون خائناً لما فطرك الخالق عليه. إلا أن الفلسطيني يعلم أن ثأره لن يكون فقط باسترداد رقعة الأرض كاملة، وأن نصره لن يكون فقط بطرد المحتل ذليلاً مكسوراً من أرض عربية طاهرة أراد تدنيس بياض ثوبها بأساطيره وخزعبلاته. نصر الفلسطيني قد بدأ الآن؛ بدأ بسماعه الأرض تضج بالصلاة والدعاء لكل ما هو فلسطيني، بدأ بأن أصبح اسم بلاده هتافاً يردده الثوار في كل ساحات القتال، بأن أصبحت خارطة أرضه منارة تشع نوراً للباحثين عن الحياة بعز وكرامة، بدأ نصره عندما أصبحت الكوفية رمزاً وغصن الزيتون رمزاً وألوان علمه رمزاً. نصر الفلسطيني أن أصبح العالم كله فلسطينياً. طوبى لكِ فلسطين أبناءك الأبرار، وهنيئاً لنا وطنٌ كسر قيده بيده ومعه قيد العالم أجمع.
أسيل إبراهيم