هذه الأخيرة ليست فقط الحركة التي درسناها في حصص التّاريخ والتي ارتبطت بهرتزل وزرع اسرائيل في منطقتنا. هي حركة عميقة ومتجذّرة نفسا وذهنا ومخيالا. أساسها عقدي ولا شكّ وترتبط بالدين والتديّن ولكنّها تُثبت إلى حدّ بعيد أنّ بإمكان الإنسان السّطو على العقائد التي تهدف منطلقا الى ردعه وكبح الشرور وتحويلها عقائد شرّيرة. تقريبا، دخل الصّهاينة على كلّ عقائد الآخرين وعبثوا بها تحريفا وتأويلا غريبا وتوظيفا. نجحوا في ذلك الى حدّ بعيد فقد سبقوا الى علوم كثيرة. يشعر القارئ للقرآن في مواضع كثيرة أنّ الله يُخاطب أولويّا عُلماء بني اسرائيل. لا يخاطبهم دعوة وتذكيرا ولكن فضحا لقدرتهم العاتية على التّحريف وقلب الحقّ باطلا والباطل حقّا ولتحذير أصحاب الدّين الجديد من خطورة المنهج التحريفي. منذ قيام الكيان لم يظهّر الصّهاينة معتقداتهم الدّينيّة كما يفعلون اليوم.

هم يفعلون هذا لأنّ السّياق الحاضر يسمح بربط هذه المُعتقدات بتطلّعية خلاصيّة. يعيشون اليوم تناقضا بين الخوف من الزوال (عقدة العقد الثامن، الخراب) ورجاء المسيح الذي سيُؤبّد وجودهم كما يظنّون.

هذا من ناحية يزيد من شهيّتهم ويحرّكهم لالتهام مزيد من الأراضى ويجعلهم يفكّرون بجدّ في إنجاز ما يهدّدون به منذ زرع كيانهم: تدمير المسجد الأقصى. لا أشكّ أنّ الشعوب حولهم ستجتمع عليهم بلحظة من اللّحظات وتقتلعهم.

بل لا أشكّ أن تثور عليهم الإنسانية قاطبة وهي ترى كيف يتحوّلون شرّا مُطلقا. يُقيمون كلّ الحجّة على أنفسهم ويستثمرون في ضخم الفوضى ولا يُدركون أنّهم يهلَكون عندما يحسبون أنّ القدرة على النّاس لهم جميعا.

الثمن الذي تدفعه الإنسانيّة للوعي بالصهيونيّة باهض. الدّور على العرب والمسلمين اليوم ومنذ عقود لدفع بعضه، بعض هذا الثمن. لمّا كان البعض يحسب الضحايا في غزّة بالآلاف كنت أقول بيني وبين نفسي أنّنا لو أنفقنا عشرة ملايين من الأرواح مقابل الخلاص من هذا الشيطان المارد فقد لا يكون ذلك كافيا. دفعنا بعض الملايين في الحروب وفي الفتن وفي دمار مجتمعاتنا وتفكيكها وسندفع أكثر. لماذا كانت تلك الحرب الضروس بين العراق وايران ولماذا احتلال الكويت ولماذا احتلال العراق ولماذا حصاره قبل ذلك ولماذا تركيب جماعات عدم رخيصة ولماذا الرّبيع العربي كما شهدناه ولماذا المشهد السوري كما نحضره اليوم.

البعض ينتظر ديموقراطيّة في سوريا والواقع أنّ القتل هناك سيبلغ حدودا لم نجرّبها من قبل. طبعا يد الصهيونية تتخفى كالشيطان. هناك عناوين تركّب واجهات: الدين، المذهب، الإيديولوجيات، الحقوق، الحرّية ولكن للعناوين كواليس صهيونيّة جدّا. يكمن مكر الصهيونية في أنّها تجعل مسافة زمنية بين المقدّمات والنتائج ولتبعد التّهمة فلا ندرك ولا نفهم تصنع لنا مقدّمات وهميّة. الخطط لتدمير سوريا قائمة منذ عقود وهي تُدمّر الآن تنفيذا لتلك الخطط. ماذا نرى نحن؟ نرى نظاما وشعبا ونرى علويين وأمويين ونرى تناقض مصالح بين عرب وكرد وغير ذلك. ولماذا الخطط لتدمير سوريا؟ لأنّ هناك خططا لتدمير كلّ الجغرافيا بين النيل والفرات لتقوم الدولة اليهوديّة المقدّسة التي ستحكم كلّ الأميين ويباركها الربّ. من يحلّل هكذا يقولون عنه أنّه يتوهّم وأنّه غارق في نظريّة المؤامرة.

انتظروا قليلا وسترون العجب العجاب وفي سوريا تحديدا!!!!

سنقول رغم ما نكتشف من توحّش نظام الأسد أنّ حكمه كان أرفق بالسوريين. سنقول ذلك لا لأنّ الوافدين يخطّطون لذلك فهم براغي ولكن لأن الماكينة الأوسع تطلب ذلك وتضع له المقدّمات منذ زمن طويل. هي حتّى وضعت المقدّمات الثقافية والعقديّة لصراعاتنا الدينية التي لا تنتهي. ابحثوا عن الصهيونية وستجدونها في أحاديث كثيرة للنبي وفي تفاسير غريبة لبعض القرآن وفي روائيات اسرائيليات تعبث بمدونتنا الإسلاميّة. نحن نهاية المطاف في مسار الصهيونيّة الهيمنيّ.قبلنا كانت أوروبا ومسيحيّتها، أثخنوا في هذه وتلك حتى صار كلّ الغرب ركوبة للصهيونيّة.

هذه ظاهرة لا تُفهم بعقلانية وعلميّة ولا تُفهم باقتصاد وسياسة وهي حريصة جدّا على اشاعة المُفردات التي تعجز عن فهمها. هذه ظاهرة نفهمها اذا أدركنا أنّ الشيطان حقّ وأنّه دائم الحضور والتشكّل. الشيطان هو المعرّف صهيونيّا الها، هو الذي يوسوس لهم منذ القديم أنّهم شعبه المختار وأنّهم معول هدمه المدلّل والمقدّس.

أمور كثيرة وجبت مراجعتها وقد لا نجد للمراجعة الوقت ونحن في أتون صراعات دامية لا تنتهي. نحن بسياق ميتافيزيقي ولا نشعر ومفرداتنا كما أذهاننا وعقولنا منشدّة الى الفيزياء. الوحيدون الذين يقولون بالميتافيزيقا اليوم هم الصهاينة. يقولون ذلك على الملأ ولا يُعارضهم أحد، كلّ العالم المتحضّر والعلماني والحديث يصمت بل يستمع مبجّلا وموقّرا. ذلك أنّ هذا العالم الماسك بالثروات والمتحكّم بالتقنيات ليس الا العالم الذي قدّته الصهيونية عبر قرون ممتدّة. أنصح التونسيين بالتربّص في موضوع سوريا.

الواحد قد تأخذه الحماسة ويُسقط من أحلامه على المشهد فيقول كلاما خفيفا يضطرّ بعد أسبوع أو شهر لمراجعته ليسخر بعد ذلك من نفسه ويُسخرُ منه.

الجزع الأكبر، نحن نحوه نمشي أو يقدم نحونا حثيثا. بعد ذلك يكون ما قدّر الله فليس الشيطان الها.
الدكتور الهذيلي منصر – تونس-