سويعاتٌ قليلةٌ و ندخلُ عامَ ألفين و  ( … )، و ها أنا و بعد يومٍ هادئٍ آخر ، أجلسُ و  أراقبُ  شمسَ الأصيلِ كيف تختفي خلفَ باحاتِ المسجدِ الأقصى، ليبقى نورُه وحيداً ..
و قد اعتدتُ كلَّ يومٍ ألّا أُفوِّتَ هذا المشهدَ لما يتركُه من أثرٍ بالغٍ على قلبي و روحي ، إلّا أنَّه و في كلِّ مرَّةٍ يأخذني إلى ما قبل سنواتٍ قليلةٍ  ، يأخذني إلى أياماتِ طوفان هذا المسجدِ المنيرِ قُدّامي ..
يأخذني إلى ذلك اليومِ الذي خرج فيه بنو صهيون من أرضنا يتعثرون بهزيمتِهم و ذلِّهم و موتِهم حيثُ لم يكن أحدٌ يتوقعُ ذلك قبيلَ الطوفانِ.
أذكرُ أننا فقدْنا الكثيرَ على طريقِ القدسِ ، و سقينا هذه الأرضَ دماءً حتى ارتوتْ ، لكنَّني لم أعرف أرضاً جديرةً أن تُسقى بالدماءِ كأرضنا ، و لا منزلاً جديراً أن يُفتدى بالروح و الدم كمنزلي..
آه ما أزكى تلك الرائحة التي تخرجُ من بواطنها _و أنا متَّكئٌ فوقَ تربتِها _لتدخلَ باطني فتعرُجَ بروحي فوق سماواتِها و تسري بها في رحلة عبرَ الزمن …
تُرى  هل هي الأرائكُ التي وعد اللهُ بها عبادَه المؤمنين ؟!
و مرّة أخرى أسرني عبقُ الذكرياتِ في  تلك السنين..
أذكر انتصاراتِنا فأكبِّرُ و أهللُ و أحمدُ الله  و أمجّدُ القادةَ ثم أذرفُ الدموعَ طويلاً .
أعودُ و أذكرُ انكساراتِنا فأكبّرُ و أحمدُ الله و أمجّدُ القادة و أبتهجُ طويلاً .
يسألني شخص ما تمثَّلَ أمامِي فجأةً ليقول : ويحك أتبكي للنصر و تفرح للانكسار !؟ ، ثم يختفي مرة أخرى ،  و لكنني أجيبه غيبةً ، فأقول  فأما بكائي أيُّها الغريبُ فهو ما يدعى  بنشوةِ الفرحِ ، و أمّا  ابتهاجي هذا  لأنني أعرفُ أنَّ  ما قدمناه من تضحيات في زمن الانكسارِ كان  لأكثرِ أمرٍ يستحقّ ، و لم يذهبْ هباءً منثوراً ،  و تلكَ هي نشوةُ النصر .
أذكرُ أننا كنَّا  قد أمضينا عشرة شهورٍ من ذلك الطوفان ، و كان العدو منتشياً بقصفه عواصمَنا و  باغتيالاتٍ ظنَّها ستثبّط من عزيمتِنا و بأسِنا  ، و بدأَ يرسمُ لنفسِه انتصاراً وهمياً ، إلى أن جاءَ عدوَّنا عذابُنا غيرَ مردود ، و جاءَتْ نيرانُنا  من كلِّ حدبٍ و صوب ،  و لم تستطع كلُّ دفاعاتِ العدوِّ أن تتصدى  لصواريخِ و مسيَّراتِ  الشمالِ و الجنوبِ و الشرقِ الثائرةِ الغاضبةِ ، المستمرَّةِ  لساعات و أيام ، و التي تنهمر على كيانهم و هي تردِّد : خذوا من الله ما تستحقون ، ألا إنَّ لعنةَ اللهِ على الظالمين .
لا يزال مشهد نيران يافا  -التي كانوا يسمونها تل أبيب_ حاضراً في ذهني و هي تعانقُ حدودَ السماء ، بفعل تلك الصواريخ الغاضبة ..
لقد شهدت تلك المرحلة  شكلاً من التصعيد ، مفاجئاً صعباً و خطيراً ، ثارَ العدو الذي كان يدرك أنّه يحاربُ فقط لضمانِ  بقائه في هذه الرقعة ، و ليس ليقضيَ على محور المقاومة مثلاً ،فهو كان هدفاً بعيداً جداً عليه .
لقد اتجه نحو جنوب لبنان ….
شهداءٌ كثرٌ و دمارٌ هائلٌ و مشاهدُ مروِّعةٌ خلَّفتها مقاتلاتُه و سفنُه الحربيةُ و دباباته يومئذٍ ، حتى أنَّ أرضَ الجنوبِ لا تزالُ تحتفظُ بتلكَ الدماءِ في جوفِها  ضمن حيزٍ خاصٍ ، لتأخذهم معها و تقدمَهم  شاهداً و إياها على عظمة تضحياتنا ، و قبح جرائم عدوّنا  ، عند مَن لا يُظلَم عندَه أحدٌ .
لم يطلْ الأمرُ حتى استيقظنا على بيانٍ عاجلٍ للمقاومة الإسلاميةِ في لبنان تعلنُ عن إسقاطِ أوَّلِ طائرةِ F35 ، ثم تسقطُ أخواتها  تباعاً ، و حتى السفن على سواحل بحرنا و التي لم ترحم أهلَنا بقصفها ، باتت تتخبّطُ في ظلمة قعر هذا البحر و تنادي فلا مجيب . 
لم  يكن العدوُّ قد استوعبَ رؤيتَه لمقاتلاتِه العتيدةِ و سفنِه المتطورةِ  تتصيدُها صواريخُ المقاومةِ في سماء لبنانَ و بحرِه  بَعْد ، حتى فوجئَ بخبرِ دخول الوحوش اليمنية ميناء أم الرشراش _و كانوا يسمونه ميناء إيلات_ ، يستلُّون خناجرَهم  و يردِّدون لبيك يا أقصى .
كانت  الأخبارُ كلها تقولُ  أننا في غمارِ  الحربِ الكبرى الموعودة  ، و  الكيانُ محاصرٌ شمالاً و جنوباً ، و بالطبعِ محاورُ الشرقِ أيضاً لم تكن تبخلُ عليه بصواريخِها في سياق رؤيته أيَّ منقلبٍ ينقلب، فأمطرت سماءَه  بما استحقّ.
حينها كان عيالُ المحور ينتظرون التقاءَ الجيوش و الاحتفالَ بالتحرير ، إلا صاحبَ النفسِ الطويلِ ،  كان ينتظر، و هو  الذي كان يدير رحاها  حتى قبل دخوله ،  و قد كان  يمسك الورقة الرابحة الأخيرة بيدٍ واثقة  ، و يتربَّص حتى يأتيَ اللهُ بأمرِه…

ها قد بدأ العدوانُ بشكله الجديد …هجماتٌ شرسة جداً لم نرَ مثلها عبر تاريخنا ، براً و بحراً و جواً ، و أسلحةٌ جديدةٌ مدمرةٌ يستخدمها العدو لأولِ مرةٍ ، إنَّه يستخدم  كل ما لديه الآن .

إلا أنه لم يستطع تقويضَ إرادتنا ..
جاء أمر الله المنتظر أخيراً  ،  و أتى ذلك الغريبُ لينقذَنا جميعاً ، لقد أصاب أسلحتَهم  ظلُّه العظيم المهيب فاستنزف طاقاتِها و حلَّ شيفراتِها  حتى حجبَ عنها نورَ الشمسَ ، لينيره لنا حيث أقفُ اليوم  ، ثم رفع يده مشيراً إلى اكتمال الشوق للنصر و نضجِ علاماته ، و كشف النقاب عن وجهه الكريم ، و دخل مصطحباً معه جنودَه  الذين درَّبهم طويلاً من أجل هذه اللحظة   ..
مسحتُ الدمعةَ التي غافلَتْني و سقطَتْ ، لألحظَ حلولَ الليلِ على هذه الأرضِ العظيمة  ، و المسجدُ لا يزال نورُه يشعُّ و يبرق أكثرَ فأكثر ، لأرى في قبّته الكريمةِ تلك الذكريات مرة أخرى ،  فأُكمل …
قيل لنا في ذلك اليوم  أنَّ الرَّجل الذي مهَّد للطوفان لأعوامٍ طويلةٍ جداً  و صعبةٍ جداً رفقةَ جنوده البواسل  ، هو الأحقُّ بالتوقيعِ على زوال المغتصبِ ، و قد كان ..
لقد تم حصار كلّ طواغيت الأرض هنا ،  فلا مفرَّ لهم ،  هنا  هزموا  ، هنا دمرنا آلياتهم و هنا أسقطنا طائراتهم و هنا قتلنا جيوشهم  و قادتهم  ، و هنا قلنا لهم هذا بعضُ ما لدينا ، فهاتوا كلَّ ما لديكم ،  و هنا كانت معركة التحرير ، و هم الذين جاؤوها مهزومين مذلولين حتى  قبل خوضهم غمارها  ..
لقد حجبَتْ عني الفرحةُ تفاصيلَ ذلك اليوم ،لكن كلُّ ما أذكرُه أنني  أمضيتُه في  البحثِ عن صاحبِ الظل العظيمِ ولم أجدْه ..  عاد إلى ملكوتِه و غابَ كعادته  و كما أراد .
لقد صدق وعدَه ، و كان وعده مفعولاً ..

محمد يونس-سورية