بعد التأمل في المشهد، ومراقبة ردة الفعل الشعبية، مهملاً “السفلة” بالتأكيد، لم أرد لمقالتي هذه أن تتخذ منحىً سياسياً تحليلياً للمشهد. حيث أن الساحة أنجبت الكثير من المفكرين المخلصين الذين أهّلهم صدقهم لأن يفهموا المشهد، وأن يضعوا الصورة في مكانها الصحيح. وآثرت هنا أن أجعلها مقالة وجدانية لسببين؛ السبب الأول: الوجدان أساسٌ للثورة، وهو مكونٌ مهمٌ لتحريك القوى وتفاعلها بمستوى الحدث. والسبب الآخر هو أن فقدان أي قائد كالقائد الكبير إسماعيل هنية والقائد الكبير فؤاد شكر، هو بمثابة فقدانٍ للأب. وفقدان الأب يوحي في بداياته بانغلاق السبل والأجوبة، وذلك لأن الأبَ قائدٌ في البيت وحامٍ لِحِماه، وهو ظهر البيت ومقدمته ورأس حكمته.
الكثير منا كأفراد فقد أباه وشعر بأن لا ظهر له، وشعر بأن البوصلة مفقودة، وبأن التوجيه في مناحي الحياةِ صارَ مبعثراً هنا وهناك، حتى يتطاول الزمان وأحدنا يعالج ألم الفقد، حتى يشعر الواحد منا بأن روح والده قد حلّت فيه فبدأ يتقمص طباعه. هذه الحالة الفردية تنسحب إلى الحالة الجمعية كذلك، حيث يكون الأب في الجماعات أباً روحياً، وليس أدلَّ على ذلك من استقبال الأب الحاني إسماعيل هنية خبر استشهاد أبنائه الثلاثة في عدوانٍ صهيوني غاشم، ثبت حينها كالجبل الرصين وألجأ الأمر إلى الله، وخرج على شعبه وقال لهم: “دماء أبنائي ليست أغلى من دماء أبناء شعبي، ودماؤنا جميعنا متساوية، وكل شهداء غزة وفلسطين هم أبنائي”.
إن ما يميز الأب الروحي لفكر المقاومة عن الأب بالدم أنه صار أباً بالفكر والرسالة، حيث يقود الناسَ من خلالها ويحمي حماها ويحافظ على نقائها، ويفتديها بنفسه، حتى يصبح هو بذاته فكرةً حيةً تعبر عنها، وعندما يستشهد يصبح روحاً. وكأن جميع قادة المقاومة الذين تعاقبوا على حمل رايتها، وبذلوا لأجلها دماءهم كانوا كأبٍ واحد؛ تختلف أسماؤهم، ولكن القلب والفكر والرسالة واحدة.
ومن ذلك أقرأ، أن ما وصلنا إليه اليوم منذ عام 1984 من تعاظم لقوى المقاومة، ما هو إلا نتيجة قادة لم يحيدوا عن الطريق، استشهدوا وتحولوا إلى بوصلةٍ أدقَ لمن بعدهم، فأي حاملٍ لراية المقاومة أينما كان، سيدفع بذات الاتجاه، وبقوة أشد مما مضى. وإنه إن يأتِ مَن يأتي بعدَ إسماعيلَ وشكر ثم يقضوا ويستشهدوا، فإن الطريق تصبح أكثر اتضاحاً وتجلياً وصدقاً، لأننا بشهادة القائد نفهم أن لا طريق نحو الحرية والكرامة إلا طريق الشهادة، والتي أعرّفها بأنها بذل أقصى الجهد في اتباع طرق النضال، حتى لا يبقى لأحدٍ عذرٌ بالقعود.
فاليوم – وربما غداً وبعد غد – بُذلت دماء قادة، وتساوت دماؤهم مع أبناء شعبهم، وصار دمهم بعضه ببعضٍ مختلطاً ، كأنما ترجلوا وانضموا إلى قافلة الأتباع مشاةً معهم. في هذا التساوي، يتجلى لدينا معنى آخر، معنىً ثوري، أن البوصلة أدقّ، ليس لمن تبعهم من القادة فقط، بل إننا أصبحنا جميعاً، في الميدان وخارجه، نعرف الوجهة أكثر من أي وقتٍ مضى، فهي ذات الفكرة، ذات البوصلة، والاتجاه واحد، وتتساوى بين القائد والتابع عندما تصل إلى أوجها ومنتهاها. وإننا نفهم أيضاً بأننا نستطيع جميعاً أينما كنا، أن نسير بذات الاتجاه الذي تشير إليه البوصلة؛ وسنكون مستهدَفين أينما كنا في محاربتنا لهذا الكيان، حتى يستوي فينا من تحت الأرض في الأنفاق ومن فوق الأرض في كل مكان يطاله الكيان. ويذكرني ذلك بالمعنى الذي سطّره غسان كنفاني نصاً، وجسدته أرواح شهدائنا بالدم: “لا تمت قبل أن تكون نداً”.
إن وفاة جسد الأب الروحي خلودٌ لروحه، وهي إضافةٌ إلى معنى الفداء والمقاومة التي توارثناها بأسماء الشهداء والمقاومين عبر تاريخ النضال ضد الاحتلال والعدوان. فاليوم، الأب الحاني إسماعيل هنية، وفؤاد شكر، وكل قائدٍ عرفناه وسنعرفه، بالشهادة يصبحُ مكوناً جديداً من وجداننا النضالي، تتحرر روحهم ليصيروا بكليتهم فكرةً وجدانية تعيش فينا لتحركنا وتدفعنا إلى الأمام. الأب الروحي بشهادته يصبح مثالاً ونموذجاً كاملاً أنهى مسيرته الجسدية بصفحةٍ بيضاء. وهي حالةٌ تأثيرية نموذجية أشد تأثيراً من حالة الأحياء، حيث انتهت الظنون حول مسيرته وكان ختامها مسكاً، ليصبح بعدها مرجعاً وجدانياً نقياً. فكم من مرة سمعنا اسم عماد مغنية في خطابات السيد؟! وكم من مرة لمحنا أمام شاشاتنا كلمات الأب الروحي أحمد ياسين؟! وكم هي الأمثلة كثيرة في أمة المقاومة.
رحلت أجساد القادة الشهداء، وغدت الوجهة أشدَّ وضوحاً ودقة، وأقربَ إلى الممكن!!
آدم سرطاوي-كندا