متاهة الحكم في أمريكا إبْهامٌ مُطلق، وتحديد مسالكها وغورها مخاطرةٌ ورهانٌ صعب، هي قوة جبارة شمولية وغاشمة تجثم على حياة كل مواطن أمريكي بل كل إنسان يعيش على وجه البسيطة، وهي مخادعة وجشعة وشرسة. هي بلا أسماء ولا تعريف ولا هوية واضحة ومحددة، لكن الحقيقة والثابت أن لهذه القوة نفوذ واسع لا نعرف له حدًّا ولا قرارًا ، محكِمٌ ومسيطرٌ على كل الأشياء.
الهيدرا..
رَسَمَ “باسكال أفو” كِتَابَةً ملامح هذه الهِيدْرَا كما سَمَّاها وفَسَّر كيف أنها تُخْضِع تدريجيًّا الإنسانيةَ لنظامٍ مالي وقانوني وسياسي وإعلامي ونفسي ورقمي وصحي بشكل كلي وفي آن واحد، إلى حدٍّ يُلغي كل تمرد ويمنع كل ثورة ويقضي على كل محاولة للتحرر من سطوتها. وبَيَّنَ كيف يعمل طغيان الدولة العميقة -الغير قابل للتدمير- من خلال التظاهر بالديمقراطية والحداثة وحرية السوق، على استيلاب إرادة الفرد، وكيف أنه، خلافا للدكتاتوريات التقليدية الغبية، لا يعرقل المعارضة بل يمتصها، ويبتلعها، ويوجِّهها حيثما يشاء ويُضْعفها. وكيف أن هذه الهيدرا أو الدولة العميقة تقبل بالإدانة بل تريدها بهدف استنفاذها إلى حد أنها تُمَوِّل أعداءها وتحتفظ بهم على تخومها.
إن هيدرا الدولة العميقة كما يقول، تقوم بغسل دماغك في الصباح والظهيرة والليل وتستعمل في ذلك الإعلانات، السينما، وسائل الإعلام، الشبكات الاجتماعية، فوضى الاستهلاك، آفة الإدمان، العلامات التجارية وشعاراتها، المواد الإباحية، المخدرات. فهي تُفْرغ كل قدرة لخلاياك العصبية أو إرادة للرفض، دون تذمر فأنت تشعر بالسعادة والرضا لدرجة أنك تقبل بكل آفاتها وفتاتها. وفي حال ابْتَعَدْتَ عن توقعات الهيدرا، فإن الدولة العميقة سوف تُخيفك. تُخيفك من الحرب ومن الفيروسات ومن الفقر ومن الفوضى ومن المجهول، النتيجة أنك ستركض للاحتماء بأجنحتها، مُرَوَّعًا وَاهِنًا ومُطِيعًا وسوف تشعر بالرعب من كل شيء وتدخل الثقب الأسود والغائر للدولة العميقة دون سؤال.
إن هذه الهيدرا المبهمة المتجبرة كما تحدَّث عنها باسكال أفو، تستفيد من كل شيء، من ثمار الفقر وثمار الرخاء، فكلها تنتهي في حساباتها. وهي ألفا وأوميغا الرأسمالية المعاصرة ومصدر إلهام الليبرالية المتوحشة. الفقراءُ فريستُها والأغنياء مرؤوسوها، والموظفون المدنيون هم آليتها، وكبار الرؤساء حراسها الشخصيون، إنها عصارة الظلم والقهر.
المشهد المُشْرق في الإمبراطورية:
حول الأوضاع في أمريكا، قُبَيل الانتخابات الأخيرة، نَفَّذَ المخرج التركي Tunç Akkoç عبر وثائقي “استفاقة الحلم” وفي مفترقات الشوارع والمدن الحائرة لأمريكا، إلى المَوَاطِن الخَفِية لمشهد معقد ومناخ ملبَّد بضباب الخطب والاقتتال الانتخابي في مواجهة كامالا/أوباما وترامب/ماسك.
الأمريكيون في الشارع يقولون بكل مرارة: “لو انْتُخِبَتْ كَامَالا هاريس لن يكون لنا دولة اسمها أمريكا، وبصعود ترامب ستغرق أمريكا، لأنه فاشستي وسوف يرمي الدستور والقانون جانبًا، الخلافات السياسية وصلت إلى البيوت والعائلات وقَطَّعت أوصالها، فهناك من طرد أبناءه لأنهم مختلفين في الرأي عنه.. لهذا الحد وصل الحال بنا في أمريكا”..
يقول نورمان فينكلشتاين، Norman Finkelstein الكاتب وأستاذ العلوم السياسية وهو أحد رفاق ناعوم تشومسكي: “الناس لا يستطيعون خلاصَ أكرية بيوتهم، والحياة صارت صعبة بسبب الغلاء وفقدان فرص العمل، واستفحال المخدرات، وغياب العدالة، وفقدان التغطية الصحية وفرص الحياة، ولا تحتاج لتكون سياسيًّا حتى تفهم هذا”..
“في نفس الدائرة البلدية، يلتقي النقيضان: منهاتن، جنة مديري البنوك، والبرونكس، جحيم الفقراء بما يرافقه من فوضى يومياتهم وفقدان الأمان الاجتماعي، هذه النتيجة هي ثمرة تغوُّل ديمقراطية الأغنياء وحربها على الفقراء، ولن يكون الجمهوريون أفضل من الديمقراطيين، والعكس صحيح”
“لنجعل أمريكا قوية مجددًا، Make America Great Again !!، إذا كان ترامب يقصد بهذا الشعار إعادة الحياة للحلم الأمريكي، فإن الحلم الأمريكي مات تحت نظام قضائي يوظف لغايات سياسية، حيث تم استخدام الهجرة غير الشرعية في السجال السياسي للفوز بالسلطة بدلًا من إصلاح البلاد. الأرقام مرعبة بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين، ففي ولاية أوهايو فقط، توجد مدينة بها أربعون ألف ساكن، نصفهم من غير الأمريكيين، ويعيشون في بيئة مشبعة بالجريمة المنظمة وتجارة المخدرات. أثناء ولاية بايدن اجتاز اثنا عشر مليون شخص الحدود، ومنهم أسماء موجودة في قوائم الإرهاب، ولا أحد يهتم. إنها قواعد رأس المال؛ فالهدف هو استغلال هذه الجموع من المهاجرين الفقراء القادمين من دول الجنوب إلى أمريكا، حيث تُدار الثروة، لأن الشركات المتعددة الجنسيات المنتجة تحتاج إلى اليد العاملة البخسة، بينما يرزح أبناء البلاد تحت البطالة والتهميش”.
“يجتازون الحدود مع المكسيك بلا فلسٍ واحد، ثم بعد بضعة أشهر يشترون قصورًا فخمة بمليون دولار، وأثمان العقارات في ارتفاعٍ مدهش.
لا نفهم كيف يفعلون ذلك، ولكن كل ما نعرفه هو أننا لم نعد قادرين على العيش في هذه الأوضاع مع الحرمان والخوف.”
“بدلًا من أن يعترفوا أن حقيقة المشكلة الأمريكية هي الحروب والتدخل في شؤون البلدان الأخرى والسياسة الخارجية لأمريكا التي لم تجلب لنا إلا الدمار، هم يلصقون كل شي بالهجرة، لأنهم لا يريدون أن يظهر واقع الصراع الطبقي على السطح، بل يفعلون كل شيء لتغطيته بموضوع الهجرة والحروب مع بلدان أخرى”
“وبين فترة وأخرى تظهر صيحة جديدة: صراع عنصري، صراع بين الأجناس، صراع بين الرجل والمرأة، صراع مع ظواهر يخلقونها للتعمية على واقعنا، والآن وصلوا بنا إلى الترانس جندر وفي فضاءات أطفالنا”!!!..
“في أمريكا لحل مشاكل الصراعات التي يخلقونها، اعتمدوا مبدأ المناصفة في واجهة الحكم، فمثلما جلبوا النساء باسم المناصفة بين الجنسين، جلبوا رئيسًا أسود ومسؤولين سود في إدارة الحكم باسم المناصفة بين البيض والسود، والآن المناصفة مع المثلية، ليس الأمر متعلقًا بالكفاءة والاستحقاق بل هو متعلق بترضيات وحسابات خاصة بحكام الغنيمة، كل هذا للتغطية على أزمات متراكمة منذ عشرات السنين”..
“في الولايات المتحدة، تتحكم حفنة من الأشخاص في كل الثروة، وهنا يكمن الاختلال في نظام الحكم، ولنا قوانين تُسن لتشريع الفساد. الحق في كسب المال بطريقة غير شرعية مشروعٌ للسياسيين، وقد منحوا عنوانًا لهذا الانحراف (مساهمات مؤسسات كبرى في الحملات الانتخابية). وفي النهاية، يبقى السياسي أسير هذه المؤسسات وينفذ أجندتها، أما نحن فخارج كل الحسابات..”.
كل هذه الأشكال من الفساد صارت مُوَطَّنة في الطبقة السياسية الأمريكية ومعلومة لدى العام والخاص. ولهذا السبب، لا يحترم الأميركيون الكونغرس، لأنهم واعون أن من يدفع المال في أمريكا هو الحاكم الفعلي، ولا يثقون في الإعلام أيضًا، لأن كل ما يقدمه الإعلام هو مَسْرحية مُزَوَّقة وبليدة للجرائم التي تُرْتَكب باسم إدارة البلاد ومصلحتها العليا. في الحقيقة، كلهم مثل نجوم سينما هوليوود، يلعبون أدوارًا في خدمة مانحي المال واستغباء المُشَاهد هو جزءٌ من أدوارهم”..
ويضيف أحد المتحدثين، “الإدارة الأمريكية تأخذ أموال دافعي الضرائب وتُفسد الكونغرس لتحصل على مال أكثر، أضف إلى ذلك الميزانيات العملاقة لوكالات الاستخبارات، التي لا تحاسَب بالقانون أمام الشعب إذا اقترفت أخطاء أو ارتكبت جرائم”..
“الولايات المتحدة في حالة انهيار، فأيام ازدهارها الأخيرة كانت في 1976 مع جيمي كارتر، بعدها بدأ السقوط.
أما اليوم، فإننا نشهد بداية سقوط النظام الجمهوري، ولم يعد هذا الدستور الذي وُضِع منذ مائتي سنة صالحًا أصلًا ولا قادرًا على حماية الجمهورية. بل لم يعد ضروريًّا أن تسأل إذا كانت أمريكا في حالة انهيار، فأنت ترى هذا بأم العين، وتفهم أننا جاهزون تمامًا للحرب الأهلية”..
ويقول أحد السفراء الأسبقين: “أتذكر أنه بعد المؤتمر الدستوري (Convention Constitutionnel) في فيلادلفيا منذ قرنين ونصف، حين سأل “بانجامان فرانكلان”، عن ماذا قدم لأمريكا قال: “أعطيتكم جمهورية إن استطعتم الحفاظ عليها”، وها نحن الآن بصدد ضياعها. أجل، رقصت أمريكا مع الشيطان”..
كل هذا الكم من الغيض والغضب والمرارة واليأس لدى الشعب الأمريكي، يؤكد أن إمبراطورية الحروب تعيش حالة من الغليان والتآكل الداخلي في حكمها ومجتمعها. فهذا صوت الأمريكيين، موظفين وعمالًا ونخبًا وأكاديميين، يتحدثون خارج الدعاية السوداء لإعلام اللوبيات، إنه صوت الحقيقة في مدن الخوف والعنف الأمريكي.
ويَخْلُص المخرج تونج أكوتش “Tunç Akkoç” إلى أن حقيقة الشرخ في المجتمع الأمريكي واضحة وعارية، ولم يعد لأحد القدرة على إخفائها، بل هي جلية وصارخة.
وفي تأكيد لما عرضه الوثائقي الذي تم حذفه فجأة من جميع المواقع والمنصات، عَلَّق دومنيك دوفيلبان، الوزير الأسبق للخارجية الفرنسية، قائلًا عن نتائج الانتخابات وفوز ترامب والترمبية: “ما شاهدناه هو الصَّدمة والصِّدام بين أمريكيتين، وأن هستيريا السجال السياسي في أمريكا تحولت إلى صراع عشائري لا حزبي، فخلف “الماقا الترمبية”، “Maga Trumpiste” “Make America Great Again”، يوجد قطعًا الأشباح التي نعرفها ولا نراها: “Dark Maga”!!..
هل اللطخة الترمبية هي عود على بدء أم قطيعة مع التاريخ؟! في بَيْتِهِم الأبيض لقاء مفاجئ بين ضدَّين للهيدرا، البزنس مان ترامب، وملياردير سيليكون فالي وسبايس إكس إيلون ماسك، لكنهما ليسا إلا “antisystème” وسط رَحَى السيستم!!..
لن نتجاسر بالقول إن لدماء غزة وعظمة الطوفان فضلاً معتبراً على كِلَيهما، بل سنسأل: ضد مَن سَتُوجَّه المدافع “الترامب/إيلونية” في قادم الأيام؟.. قِتَالٌ في الداخل أم سَيْرٌ على خطى الأوَّلِين في جنون حروب الخارج ؟!
هند يحي- تونس