بِعَدَدِ الحروب الموزعة على جغرافيا الكرة الأرضية وعَدَدِ ملايين الضحايا من البشر والشجر والحجر، كُتِب تاريخ الامبراطورية الأمريكية للحروب المستدامة والاغتيالاتالحرة. تاريخ لحلم أمريكي تحول الى كوابيس، نرى معالمها الصارخة في شوارع بروكلين والبرونكس والكوينز وغيرها من الأحياء المهمشة والمنسية في أمريكا.
سؤال المليون.. من يهزم أمريكا؟ والجواب “قطعا أمريكا ستهزم أمريكا”.. وهذا الوحش المرعب الذي يسمى الدولة السحيقة والذي صنع جبروت الإمبراطورية، سيكون حتما السبب العميق والعامل الرئيسي لانهيارها وتفتتها.
عن الدولة العميقة يتحدث الكثيرون ويبحثون ويكتبون لفك شيفرات هذا التركيب المبهم المخيف وهذا المُصَنِّع لخراب موزع على البشر من شرق الأرض الى مغربها ومن جنوبها لشمالها دون أذون ولا شريعة أو قانون.
واجهة الحكم في أمريكا على الشاشات، البيت الأبيض والكنغرس وبينهما البنتاقون، أما حقيقة الحكم هي أخطبوط مُشَكَّلٍ من كارتلات المال والأعمال والصناعات ومصانع الأسلحة وشركات البترول، فمُجَمَّع البيق داتا والبيق فارما، ولوبي المثلية والترانس جانر Trans- genre آخر العنقود، أما أدواتها فهي البيروقراطية والميديا وهوليود إضافة الى المخابر ومراكز البحوث في الجامعات الأمريكية التي تعيش بفضل أموال المانحين، والمنظمات الغير حكومية NGO المنتشرة في أمريكا وخارجها. أما أذرعها فهي مكاتب الاستخبارات والجوسسة وفي مقدمتها CIA و FBI والبعض من أجهزة الأمن والشركات الخاصة للقتل حسب طلبات العروض وبالمزاد. الخطير في هذا المكون المتشابك هو الارتباط العضوي والمُهْلك بمنظمات الأمم المتحدة، ومنه الاستحواذ على القرار الدولي والتفرد بالحسم في القضايا الدولية والنزاعات، مما دفع بقادة البريكس الى إفراد “إعلان كازان” بفصول تتعلق بضرورة اجراء إصلاحات عميقة على ميثاق الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنظمات التجارة والصحة العالميين، كشرط لاستقرار العالم وتعافي العلاقات الدولية وإخماد الصراعات والحروب.
ورغم أنه يجوز اعتبار أن جذور الدولة العميقة ترجع لبدايات مستعمرات أمريكا قبل ما يزيد عن ثلاث قرون وأنها إرث منظومة الحكم البريطاني، الا أن بعد الحرب العالمية الثانية مثلت شخصية إدجار هوفر مؤسس مكتب التحقيقات الفدرالي ومديرها الى لحظة وفاته، حالة متفردة في إرساء القاعدة الأوسع للدولة العميقة، وتجذير نظام مافيوزي مخابراتي تجسسي هائل بدأت معه جمهورية الرعب والاغتيالات، داخل وخارج أمريكا، وعلى قاعدة Information is power أسس هوفر شبكة معقدة ومركبة ومترامية الاطراف صلب آليات الحكم في أمريكا ومنح لنفسه ولهذه القاعدة القوة والمناعة والسلطات المفرطة لتكبر وتصبح بالجبروت والفظاعة التي يشهدها العالم.
“الإدارة والقيادة والسياسات والقرار خارج مؤسسة الدولة وآليات الحكم القانونية”، هذه هي شريعة الدولة العميقة، الدوس على سيادة القانون والانحراف بأحكام الدستور -كإطار وقاعدة تُنَظم العيش المشترك بين مجموعة من الناس في رقعة جغرافية معينة-، هو سلوك مبدئي للدولة العميقة.
فهذه الشبكة تُخْضع كل آليات الرقابة والمحاسبة صلب الدولة لصالح المُجَمَّعَات المارقة على القانون، بل يقع اصدار المراسيم للتغطية على جرائمها أو تشريعها باسم الدولة والشعب.
نظام الغنائم وما يسمى في أوساط الحكم بـ Spoils system، أسلوب معتاد في إدارة الحكم في أمريكا، فكل التعيينات مبنية على العلاقات الخاصة واللوبي ينق في أوساط المال والأعمال، خدمة لفئة قليلة وحفاظا على مصالحها وحماية أرباحها وسلوكها المنحرف والخارق لكل الأنظمة والتشريعات والقيم. الدولة العميقة تختار الرؤساء والمسؤولين الكبار لإدارة الحكم في أمريكا وتختار المستشارين والمديرين في دائرة الحكم.
ألم يكن دونالد رامسفيلد رجل أعمال قبل أن يصبح عضو في الحزب الجمهوري؟ ألم يكن مديرا تنفيذيا في عديد الشركات الكبرى مثل شركة الأدوية فايزر Pfizer وفي ذات الوقت وزيراً للدفاع في حكومتين، ألم يكن أول الدعاة للحرب على العراق وبرنامج التعذيب في أمريكا؟ من قوانتامو الى استخدام أطباء النفس في تعذيب المتهمين؟ ألم يساهم في تأسيس مركز أبحاث المحافظين الجدد تحت عنوان “القرن الأمريكي الجديد”؟، ولم يختلف عنه ديك تشيني، وغيره ممن ساهم في صناعة قرارات واجهة الحكم واستفاد منها في مواقعه الخفي وسط الدولة العميقة.
حين يتحدث البعض عن الدولة العميقة في أمريكا، تتسابق نفس الصور في الذاكرة لإدانتها والتذكير بها. فهي الحروب التي شُنَّت منذ قرنين في القارات الأربع، وهي الماكارتية وملاحقة المعارضين لحرب الفيتنام وللاستبداد والعمليات السرية، وهي اغتيال رئيس الولايات المتحدة جون كنيدي وايهام العالم بأن من اغتاله هو مواطن من أصول روسية.
الدولة العميقة هي عملية خليج الخنازير وحصار كوبا، هي اغراق شوارع كاليفورنيا ونويورك بالكواكايين والهيرويين للقضاء على المد الثوري لحركة الفهود السود وحركات التمرد على نظام البيض في الستينات والسبعينات، هي اغتيال زعماء الحركات الثورية والحقوق المدنية من مالكوم اكس الى مارتن لوتركينغ وهيو نيوتن وبقية قادة الفهود السود، هي اغتيال لوممبا وجيفارا تحت شعار “عدو الأمة رقم1” لصاحبه ادقار هووفر، هي 11 سبتمبر، هي كل العمليات القذرة والاجرامية والحروب والاتفاقيات التي أقيمت وتقام تحت الترهيب واستغلال النفوذ والرشاوي والسطو وتركيع ارادة الشعوب وابتزاز حكامها والتدخل العسكري المباشر أو التدخل بأشكال أخرى، هي اغتيال عبد الناصر وبومدين، هي تأسيس ما يسمى بدولة داعش وهي الإرهاب الموزع في العالم.
الدولة العميقة هي الثورات الملونة في أوروبا وثورات الربيع العبري في بلاد العرب وهي صفقة القرن التي أسقطها الطوفان، الدولة العميقة هي تلك العصابة التي تحكم أمريكا وتُصْدر أوامر بملاحقة أشخاص من جنسيات غير أمريكية تحت طائل قانون الباتريوت أكتPatriot Act ، وفاءا لشعار الواستارن الشهير: “للجلب حي أو ميت” “dead or alive”، هي استخدام قانون الطوارئ لبلد جعل الكرة الأرضية جمعاء في حالة طوارئ دائمة، وإسقاط برجين معمرين بالأحياء في عقر دياره، كمقدمة وذريعة شنيعة لشن حروب طاحنة على بلدين مستقلين وبعيدين بمئات الالاف من الأميال عن جغرافيا امبراطورية الحروب، وهي التنصت على المكالمات الهاتفية خارج نطاق القانون وفي أي مكان من العالم.
الدولة العميقة هي القضاء على البشر عبر الأوبئة والفايروسات المخبرية بتشريع وتغطية من منظمة الصحة العالمية، هي التحكم في نبض الحياة عند البشر عبر الالكترونيات والسوبار تكنولوجيا، وتطويع العقول وتشويه الوعي بفضل الدعاية السوداء وحملات الفايك نيوز التي صارت صناعة مُمَأْسَسة ومُدِرة للملايين من الدولارات. وهي مراكز البحث التي تشتغل على وضع سرديات كاذبة وملفقة لكتابة التاريخ وتصوير واقع مشوه وبشع كأفضل ما يكون للجميع، الدولة العميقة هي الفوضى/chaos والدمار بإخراج هولوودي. الدولة العميقة هي نشر الجهل والأمية بين شعوب العالم وتجريد الانسان من انسانيته وتحويله الى روبوت يخضع لسوبريماسي suprematy الرجل الأمريكي الأبيض الثري والقوي.
في أولويات مانشيتات الاعلام الأمريكي اعتاد الناس على عناوين تمجيد الحروب، فأهم القطاعات المغطاة إعلاميا هي الخارجية والبنتاقون، أما ما يتعلق بالمجتمع وأزماته والثقافة والانسان الأمريكي فهذا يأتي في درجة ثانية وثالثة. في بلد بنى اقتصاده على نهب ثروات الشعوب، تؤطر الرشوة والمحسوبية والزبونية وإدارة المصالح بقوانين يصادق عليها نوابُ شَعبٍ لم يتسائلوا لحظة لما يُعرض قانون الطوارئ القومية على أنظار الكنغرس كل ستة أشهر منذ أكثر من عشرين سنة للمصادقة لا للنقاش.
تتفوق امبراطورية الحروب في فنون الايهام arts of illusion، وفنون الشو Show، فكل منطوقها غامض وملتبس ومراوغ ومنافي للحقيقة وكل سرديتها تعتمد فنيات فرجوية في العرض على الجمهور الذي يتقبل جرائمها وانحرافاتها تحت مؤثرات الابهار والتعمية والسيطرة على عقل المواطن الأمريكي. حتى أن قبيل الحرب على العراق إحدى الموظفات الساميات في البنك الدولي تحدثت عن استهداف العراق لمدينة نويورك بصواريخ عابرة للمحيطات!!!.. كما أنها لم تشاهد يوما خارطة ولا تعرفت على جغرافيا الأرض، الى هذا المدى وأكثر سيطر إعلام وبروباقندا الحروب في أمريكا على الناس حتى المتعلمين منهم.
ولكن كل هذا الخداع والتظليل والتحكم في عقل البشر، يصطدم اليوم بواقع بشع لمعاش المواطن الأمريكي. ربما كان واقع الفقر والجوع في أمريكا منحسرا في أماكن معينة لمرحلة ما وأهمها أحياء السود والمهاجرين والفئات المهمشة، لكن الحقيقة اليوم تتسع بل أصبحت مشهدا يوميا أمريكيا خالصا لكل من ينتمي الى الطبقة الوسطى، انطفئ الحلم الأمريكي وغفى وتحول الى كابوس موزع على كامل ولايات الامبراطورية دون استثناء.
مدن الصفيح والأنفاق هي الوجه الآخر للامبراطورية العظمى وما يقارب 38 مليون فقير و553 ألف شخص مشرد SDF في العام المنقضي، حسب أرقام رويتر، والصادم أن البيض يمثلون 49% من مجمل المشردين، فالفقر والتهميش لم يعد عنصري بل بكل الألوان والأجناس.
وبحسب تحقيق لاحدى القنوات التلفزية، فان 12 مليون طفل يعيشون تحت مستوى الفقر بينما يحصل 14.3 مليون على كوبونات حكومية لشراء الطعام، أما عن التغطية الاجتماعية والصحية فحدث ولا حرج، اذ أصبح الحصول على هذا الحق حلم صعب المنال بالنسبة لمتوسطي الدخل من الأمريكيين ومستحيل لسكان الطوابق التحت أرضية من الفقراء والمنسيين.
62٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر في مدينة إسكوباريس بولاية تكساس، وهو من بين أعلى المعدلات، وفي مثل هذه الأحياء يعتمد النشاط الاقتصادي على الجريمة المنظمة وأنشطة العصابات وتجارة المخدرات. في بلد يُصنف كأغنى مكان في العالم بحسب الدخل القومي وقارة لها من الثروة والقدرة ما يطعم كل سكانها ويؤمنهم من جوع وحاجة، يُصَنَّف الفقر والبطالة كأعلى النسب في العالم، بل صار الفرز يعتمد على الفقراء القدامى وهم السود، والفقراء الجدد ممن فقدوا الشغل والسكن وكل ممتلكاتهم وتأمينهم بسبب الأزمات المتعاقبة والافلاس ومعظمهم من البيض، لم يعد للفقر جذور عنصرية لأنه أثمر وتفرع في كل الأرض الأمريكية.
في أحد التحقيقات الميدانية لموقع تركي قبيل الانتخابات الأخيرة، يقول الأمريكيون: “نحن الآن بصدد ضياع الجمهورية لأن حكامها تعاقدوا مع الشياطين، ونحن نشاهد اليوم هذا في شوارعنا وأحيائنا. والنظام الديمقراطي في الولايات المتحدة هو نظام مختل وفوضوي وازدراء للمبادئ الأساسية للديمقراطية،هو نظام بلوتوقراطي plutocratique، يعني نظام للأثرياء فقط،وكل شي يخضع لإرادة ومصالح دائرة ضيقة من الأثرياء. لا أحد له حرية الاختيار في أمريكا، وكل شيء يُجَهَّز في الغرف المظلمة لدوائر التحكم والقرار”.ألوان شوارع البرونكس والكوينز والأحياء الموبوءة للسود والمهاجرين والمهمشين من البيض ومجمعات الفقر في الأنفاق، تصفعك وتنبئك بأن أمريكا اليوم هي في الحقيقة مجموعة من الأمريكيات.
“لو لم يقع انتخاب ترومب كنَّا سَنُشْعل أمريكا”، هذا ما تقوله الجهة المقابلة لجمهور الديمقراطيين. ومع فوز ترامب انطفئت شرارة الحرب الأهلية، لا “بل همدت، يقول آخر، لأنها ستشتعل من جديد وقريبا، ولا نحسب أن ترامب يطيل البقاء في البيت الأبيض”.. هكذا هو حديث الشارع الأمريكي.
الأمريكيون يتذكرون كيف أن الرئيس ايزنهاور حذر ثلاث أيام قبل مغادرة البيت الأبيض في جانفي 62، من أن المُرَكب الصناعي والمالي ومجمع الأسلحة تغول وصار له تأثير سياسي اقتصادي اجتماعي وحتى نفسي وروحي في كل ركن من أمريكا، complexe militaro industriel congressionnal حيث قال: “يجب أن نحمي الدولة من تصاعد تأثير المركب الصناعي الحربي”، ويضيف أمريكيون اليوم:”هو مؤسسة دون أسماء في صلب مؤسسة الدولة، وكل ما فيها ممول من طرف الدولة، والتأثير السياسي والاجتماعي وحتى الديني نشعر به في كل ركن من أمريكا وفي كل مكتب وزاوية للحكومة الفيديرالية”.. – يتبع-
هند يحي- تونس