لماذا فنزويلا؟ ولماذا الآن؟
حسن علاء الدين
يشنّ “صانع السلام” والطامح إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام دونالد ترامب حملة عسكرية جديدة تضاف إلى سجلّه الحافل بالسعي إلى السيطرة على ما يمكنه السيطرة عليه بغضّ النظر عن عدد الضحايا الذين يسقطون خلال ذلك والذين لا يتجاوزون مرتبة أضرار جانبية أو ثمن لا بدّ من بذله في سبيل الهيمنة.
والوجهة هذه المرة فنزويلا، الدولة المشاكسة التي تسبح عكس تيار الولايات المتحدة في منطقة نفوذ أمريكي حيوي. فلقد نفّذت القوات الأمريكية في الأشهر الأخيرة أكثر من عشرين غارة في المياه الدولية على قوارب يُزعم أنها كانت محمّلة بالمخدرات، وقد أسفر ذلك عن مقتل أكثر من تسعين شخصا. كما أمر الرئيس الأمريكي بفرض حصار بحري على جميع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات التي تدخل فنزويلا وتغادرها.
والحجّة المستخدمة هذه المرة لخوض هذه الحرب هي المخدرات، وبشكل خاص مخدّر الفنتانيل الذي صنّفه ترامب كسلاح دمار شامل، ما يعيد إلى الأذهان ذرائع حرب العراق. كما إن ضعف هذه الحجة ومجافاتها للواقع يشبهان ما جرى في حرب العراق أيضا. فخبراء مكافحة المخدرات يقولون إن فنزويلا تُعدّ لاعباً ثانويا نسبيا في تهريب المخدرات العالمي، إذ تشكّل دولة عبور تُهرَّب عبرها المخدرات المنتَجة في بلاد أخرى. كما إن تقييم التهديدات الوطنية للمخدرات لعام 2025 الصادر عن إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية لم يذكر فنزويلا كدولة منتجة للفنتانيل المُهرَّب إلى الولايات المتحدة.
إذا ما الأسباب الحقيقية وراء هذه الحملة العسكرية على فنزويلا؟
نفط فنزويلا كنفط العراق
تُعدّ وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي صدرت مؤخّرا عن البيت الأبيض منطلقا أساسيا في فهم تحرّكات الولايات المتحدة في العالم، إذ إنها تحدّد أولويّات الولايات المتحدة وأهدافها وسبل تحقيق هذه الأهداف. ولقد صنّفت الوثيقة بشكل صريح استعادة الهيمنة الأمريكية في مجال الطاقة كأولوية استراتيجية قصوى في سبيل تحقيق الأمن الاقتصادي الذي يشكل أساس الأمن القومي.
وإذا ربطنا بين هذه الأولوية الأمريكية وبين موقع فنزويلا في مجال الطاقة بين الدول، نتوصّل إلى أحد أهمّ أسباب الحملة الأمريكية. ففنزويلا تمتلك قرابة خُمس الاحتياطي العالمي المؤكّد من النفط الخام بما يتجاوز الثلاث مئة مليار برميل وفقًا لأحدث مراجعة إحصائية سنوية لمنظمة أوبك. والاستحواذ أو التحكم في هذا المخزون القريب نسبيا في الجغرافيا من الولايات المتحدة يشكّل عامل دفع قوي في سبيل تحقيق الهيمنة في مجال الطاقة، وبشكل خاص بعد تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط بسبب تراجع قدرتها على السيطرة المطلقة على الممرات المائية والمضائق في هذه المنطقة.
التسيّد على النصف الغربي للكرة الأرضية
لقد شدّدت الاستراتيجية الأمريكية على ضرورة تطبيق عقيدة مونرو واستعادة التفوّق الأمريكي في نصف الكرة الأرضية الغربي. وهذه العقيدة تنظر إلى دول القارتين الأمريكيتين كفناء خلفي للولايات المتحدة يجب إحكام السيطرة المطلقة عليه إما بشكل مباشر أو عبر أنظمة حكم حليفة تحفظ مصالح الولايات المتحدة. ولكن وجود دول رافضة لنظام الهيمنة الأمريكي كما هو الحال في فنزويلا وكوبا مثلا يشكّل عائقا أمام تحقيق هذا الهدف، وبخاصة عندما تُنشئ هذه الدول شراكات استراتيجية سياسية واقتصادية وعسكرية مع جهات معادية للولايات المتحدة كالصين وروسيا وإيران كما هو الحال في فنزويلا.
بعد انكفاء الولايات المتحدة وتخلّيها عن هدف الهيمنة الشاملة على العالم بأسره كما يظهر من خلال الوثيقة الأمريكية، بات من الضروري تحقيق التسيّد المطلق على نصف الكرة الأرضية الغربي للحفاظ على مقوّمات بقاء الدولة الأمريكية كدولة عظمى. فالفشل في تحقيق الأهداف الكبرى من الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة مباشرة أو عبر أذرعها في أوكرانيا وإيران والبحر الأحمر يستوجب البحث عن صورة نصر في مكان آخر كالأمريكيتين للحفاظ على هيبة الولايات المتحدة.
استجداء تدخّل الصين
لقد اعترفت الوثيقة الأمريكية بنجاح منافسي الولايات المتحدة في تحقيق اختراقات كبيرة في مجالها الحيوي بشكل قد يلحق بها ضررا استراتيجيا. والمقصود الرئيس بهذا الكلام هو الصين التي باتت لاعبا أساسيا في العديد من دول أمريكا الجنوبية، وفي فنزويلا بشكل خاص.
إن متانة العلاقة بين فنزويلا والصين وامتداد الجذور الصينية في مختلف قطاعات الدولة الفنزويلية يجعل إخراج الصين من المعادلة أمرا في غاية الصعوبة والتعقيد، كما يجعل الإطاحة بالنظام الفنزويلي أمرا يمسّ مصالح الصين بشكل مباشر، وهذا ما تشير إليه مواقف الحكومة الصينية الحازمة تجاه ما تقوم به الولايات المتحدة في فنزويلا.
وعليه من الممكن أن تكون ممارسات الولايات المتحدة العدوانية تجاه فنزويلا ضغطا غير مباشر على الصين –كما يرى بعض الخبراء- سعيا في جلب الصين إلى طاولة المفاوضات بحيث تغضّ أمريكا الطّرف عن نفوذ الصين وتمدّدها في فنزويلا، وفي المقابل تقوم الصين بمساعدة الولايات المتحدة في الخروج من أزمة ديونها المستفحلة عبر الاستثمار في سوق سندات الخزينة الأمريكية. فقد تكون الصين الدولة الوحيدة في العالم -بفعل موقعها الاقتصادي- القادرة على مساعدة أمريكا في أزمة الديون التي باتت تشكّل تهديدا حقيقيا للولايات المتحدة.
إن لجوء دولة كبرى كالولايات المتحدة إلى مواجهة دولة كفنزويلا وانتقالها من اعتماد أساليب الضغط السياسية والاقتصادية إلى اعتماد الأساليب العسكرية المميتة واستخدام فائض القوة الذي تمتلكه في غير محله دليل على درجة الخيبة التي مُنِيت بها الولايات المتحدة في السنوات الماضية وليس دليلا على القوة والاقتدار. ولعل هذا التخبّط والتشنّج إيذان بانتهاء الزمن الأمريكي الذي أهلك الحرث والنسل في معظم بقاع الأرض على مدى عقود من الزمن.
