سوريا بين “أحمد الشرع” و”أبي محمد الجولاني”
حسن علاء الدين

كانت مقابلة رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا “أحمد الشرع” مع صحيفة “ذا واشنطن بوست” الأسبوع الماضي فرصة للكشف عن بعض مكنونات الرئيس الانتقالي وقدرته على المناورة في الإجابة عن تساؤلات طرف كان يعدّه، حتى الأمس القريب، زعيم عصابة إرهابية مسلحة.
ويمكن للمتأمل في طبيعة الأسئلة المطروحة في المقابلة والإجابات عن هذه الأسئلة استنتاج الكثير عن العقيدة السياسية والمسار السياسي العام الذي يسلكه الحكم الجديد في سوريا. فعلى الرغم من حذر “الشرع” الشديد وانتقائه للمفردات والمصطلحات تجنبا لإثارة سخط أي جهة من الجهات العديدة المتناقضة التي تدعمه، إلا أن كثيرا مما يضمره قلب الرئيس الانتقالي ظهر في فلتات لسانه.

تفويض المحتل بمهام سيادية
عندما سئل عن وضع الاتفاقية مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، اعتبر “الشرع” أن الحل الأفضل يتمثل في إشراف القوات الأمريكية الموجودة في سوريا على دمج “قسد” في قوات الأمن التابعة للحكومة المركزية، متناسيا أو متجاهلا كون القوات الأمريكية قوات احتلال في سوريا.
فبدلا من إطلاق حوار حقيقي مع المكونات المختلفة في سوريا وتبديد مخاوفها الوجودية من الحكم الجديد، يفضّل “رئيس” سوريا أن تقوم قوة عسكرية محتلة بالقيام بالمهمة نيابة عنه. وبدلا من مقاومة هذا الاحتلال، أو رفض وجوده على الأقل في حال ضعف القدرة وادعاء الواقعية، أو حتى إضفاء الشرعية عليه عبر اتفاقيات أمنية مثلا قبل التعاون معه، فضّل الحكم الجديد في سوريا إيكال مهمة وطنية سيادية لهذا المحتل وجعله وسيطا بين المكوّنات السورية.

العلاقة مع “إسر/ئيل”: من الوعود إلى التنازلات
وعن العلاقة مع “إسر/ئيل”، أكّد “الشرع” انخراط حكومته في مفاوضات مباشرة مع الجانب “الإسر/ئيلي”، وأنهم قد قطعوا شوطًا طويلًا في طريق التوصل إلى اتفاق. ولكن للتوصل إلى اتفاق نهائي، على “إسر/ئيل” الانسحاب إلى الحدود التي كانت قائمة قبل الثامن من كانون الأول الماضي.
لقد باتت حدود فض الاشتباك التي أعقبت حرب 1973 أقصى غاية الحكم الحالي في دمشق من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي مع “إسر/ئيل”، تلك الحدود نفسها التي كانت وصمة عار بنظر جماعة “الشرع” قبل تقلده الحكم.
كانت الجماعة الحاكمة الآن توجه سهامها إلى حكومة الرئيس السوري السابق “بشار الأسد” متهمة إياها بالتخلي عن الجولان والتساكن مع الاحتلال “الإسر/ئيلي”، وكانت تعدُ مؤيديها والسوريين عامة بتحرير الجولان بعد “تحرير” دمشق، بل كانت تقول إن الطريق إلى القدس يمر عبر دمشق.
ولعل هذا ما دفع “الشرع” إلى استخدام لقب “الجولاني” سابقا. فكان بهذا اللقب يدغدغ مشاعر بعض السوريين التواقين إلى تحرير أرضهم المحتلة واعدا إياهم بتحقيق هذا الحلم الوطني بعد تقلده الحكم. ولكن بعد أن اتسقت له الأمور وصفا له الملك والسلطان، نسي “الجولاني” الجولان، ونسي معه القنيطرة ودرعا والسويداء وريف دمشق أيضا محتجا بالواقعية والإرث الصعب الذي يحمله. وبات التفاوض الآن على ما قامت “إسر/ئيل” باحتلاله مؤخرا مع التسليم الكامل باحتلال الجولان.

سياسة عدم الرد
كما ادعى “الشرع” أن حكومته ارتأت عدم الرد على أكثر من ألف غارة جوية “إسر/ئيلية” على سوريا منذ سقوط النظام السابق لأنها تريد إعادة بناء البلاد.
كيف تكون إعادة البناء مع التفريط الكامل في السيادة وإعطاء العدو الحرية الكاملة في التحرك حيث يشاء ومتى يشاء؟ وهل تبنى الأوطان بلا جيوش؟ إذا لماذا سمح ل”إسر/ئيل” بتدمير كامل مقدرات الجيش السوري السابق دون أي اعتراض أو ردة فعل جدية ولو دبلوماسية على الأقل؟
ما كان ليُلام ربما لو قال إن سبب امتناعه عن الرد هو اختلال ميزان القوى وعدم قدرة الحكم الجديد على الدفاع عن البلاد. أما أن يكون السبب المعلن الرغبة في إعادة بناء البلاد، فهذا ما لا يقبل به عاقل ولا يرضى به حر.

التفاوض العقيم
ومن باب الإنصاف، صدق “الشرع” عندما قال إن تقدم “إسر/ئيل” في سوريا لا ينبع من مخاوفها الأمنية، بل من طموحاتها التوسعية، ف”إسر/ئيل” كيان توسعي منذ نشأته. وهذا ما بات يصرّح به المسؤولون “الإسرائيليون” نهارا جهارا خاصة في ما يتعلق ب”إسر/ئيل الكبرى” وضم الأراضي وفرض المناطق العازلة.
ولكن كيف له أن يقول إنه قطع شوطا طويلا في المفاوضات مع هذا الكيان التوسعي؟ هل يعني بقوله هذا أنه سيتنازل عن مزيد من الأراضي، أو أنه سيرضى بجعل أجزاء من بلاده محمية “إسر/ئيلية”؟ وإن كان لن يفعل ذلك، فكيف ل”إسر/ئيل” التي اتهمها بامتلاك طموحات توسعية أن ترضى بأي اتفاق يتضمن استعادة سوريا لأراضيها المحتلة وممارسة سيادتها عليها؟ وإن قلنا إن الأمور عالقة بسبب تمسك الطرفين بمطالبهما، فكيف تكون المفاوضات إذا قد قطعت شوطا طويلا؟!

خدمة مجانية
وفي السياق نفسه، صرّح “الشرع” بأنه هو وجماعته من قاموا بطرد “الميليشيات” الإيرانية وحزب الله بحسب تعبيره. وقال إن إسرائيل لطالما ادعت أن لديها مخاوف بشأن سوريا لأنها تخشى التهديدات التي تُمثّلها هذه الجماعات التي تفاخَر بطردها من سوريا.
هو يقول إذا إنه قدّم خدمة مجانية ل”إسر/ئيل” وإن بلاده وحكومته سوف لن تشكل أي تهديد ل”جارتها”، بل إنها ستقوم بتحييد أي قوة تهدد أمنها. وعليه لا بد من الوثوق به كشريك ومتعاون، ولا بد من إيجاد حل أو اتفاق يحفظ الحد الأدنى من ماء وجهه الذي بذل جلّه خدمة لمصالح الآخرين. ولكنه نسي أن “إسر/ئيل” تأخذ ولا تعطي؛ هذا ديدنها منذ نشأتها.

لا شك في أن سوريا انتقلت من ضفة إلى أخرى في صراع المحاور في المنطقة، ولا شك أيضا في كون هذا الانتقال خسارة استراتيجية للمحور الذي كانت تنتمي إليه سوريا سابقا. ولكن الشك كل الشك في نوايا الحكام الجدد في دمشق ومن ورائهم المتنافسين على “الطريدة” التي ما زادت عن الاستقرار والازدهار منذ سقوط النظام السابق إلا بُعدا.