«الرجلُ الشجاع لا يُولَدُ ليموتَ في فراشِه»
إيمي سيزير عن باتريس لومومبا
عن شجاع آخر
وهكذا قدّم الصحافي التشيلي، ميغيل كابيزاس، شهادته عن استشهاد شاعر الثورة وصوتها في تشيلي، عازف الغيتار والمغنّي، فيكتور جارا، بعد اعتقاله مع ستة آلاف من رفاقه في ملعب سانتياغو للملاكمة من قبل عصابات أوغستو بينوشيه الفاشية في أعقاب الانقلاب على حكومة الرئيس سلفادور أليندي:
«… وفي لحظة ما، نزل فيكتور إلى الساحة واقترب من أحد الأبواب التي يدخل منها السجناء الجدد. وهناك اصطدم بقائد معسكر السجن. نظر القائد إليه (في محاولة للتأكد من شخصيته)، وأشار بيده إشارة خفيفة كأنه يعزف على الغيتار. أومأ فيكتور برأسه بالإيجاب، مبتسماً بحزن وصدق. ابتسم العسكري، كما لو كان يهنّئ نفسه على هذا الاكتشاف، ثم نادى أربعة جنود وأمرهم بإبقاء فيكتور هناك.
ثم أمر بإحضار طاولة ووضعها في وسط الساحة حتى يرى جميع السجناء ماذا سيحدث. أخذوا فيكتور إلى الطاولة وأمروه بوضع يديه عليها. ثم قام الضابط برفع فأس كانت بيده وهوى بها بسرعة وبضربة واحدة فقطع أصابع يد فيكتور اليسرى، ثم بضربة أخرى، فقطع أصابع يده اليمنى (التي كان يستخدمها للعزف).
سقطت أصابع فيكتور على الأرض، وكانت لا تزال ترتجف وتتحرك، بينما سقط جسد فيكتور بثقل على الأرض. سُمعت صرخة جماعية من ستة آلاف سجين مرة واحدة، ثم شاهدوا الضابط نفسه وهو يندفع فوق جسد فيكتور جاراً ويبدأ بضربه وهو يصرخ: «غَنِّ الآن يا ابن الـ ….، غنِّ الآن».
لا يمكن لأحد أن ينسى وجه الضابط، الفأس في يده، والشعر الأشعث على جبينه. كانت في وجهه وحشية وكراهية جامحة. تلقّى فيكتور الضربات وكانت يداه تقطران دماً، ووجهه يحمرّ بسرعة. فجأة، نهض بصعوبة والتفت نحو مدرّجات الملعب حيث رفاقه الأسرى. كانت خطواته متعثّرة، وركبتاه ترتجفان، ويداه المشوّهتان ممدودتين إلى الأمام كيدي شخص يمشي في نومه.
وعندما وصل إلى نقطة التقاء الساحة والمدرّجات، ساد صمت عميق. ثم سُمع صوته ينادي: «حسناً. يا رفاق، لنُقدّم معروفاً للسيد القائد». استعاد توازنه للحظة، ثم رفع يديه الداميتين، وبدأ يُنشد بصوتٍ مُرتجف نشيد الثورة، وغنّى معه الجميع. وبينما كانت أصوات الستة آلاف سجين ترتفع بالغناء معه للثورة، كان فيكتور يُسجّل الوقت بيديه المُقطّعتين. ارتسمت على وجهه ابتسامة كبيرة، وعيناه كانتا تلمعان كما لو كان مسْكُوناً.
كان هذا المنظر فوق طاقة جنود الجيش على التحمل، فبدأوا بإطلاق وابل من الرصاص على فيكتور وباقي السجناء. بدأ جسد فيكتور ينحني كما لو كان ينحني انحناءةً طويلةً وبطيئةً احتراماً لرفاقه. ثم سقط على جنبه وبقي مُستلقياً هناك». (الترجمة بتصرف)
البيان الأخير
قبل عام بالضبط، في يوم 2024/11/11، كان حزن المقاومين وبيئات المقاومة وأهلها في كل المنطقة لافتاً ومختلفاً عن أي يوم آخر، خصوصاً منذ بداية حرب الإبادة الصهيونية. كان هذا «يوم الشهيد» الأول الذي سيمر دون أن يطلّ فيه شهيد الأمة الأسمى، السيد حسن نصرالله، ليخاطب الأمة والعالم، ويواسي عوائل الشهداء، وأيضاً ليشدّ من أزر المقاومين في الميدان، خصوصاً أن المناسبة تأتي هذه المرة في أوج حروب العدوان والإبادة والشهادة.
ورغم أن يوم الشهيد هو لحظة مفصلية في الذاكرة السياسية والثقافية لبيئات المقاومة باعتباره حدثاً يعاد عبره بناء الوعي الجمعي في ظل ما يجري من أحداث، وباعتباره مناسبة ذات طابع رمزي وتعبوي، تتم فيها إعادة إنتاج السردية الجماعية والمقاومة حول الشهادة ودور الشهداء في الصراع التاريخي، إلا أن «يوم الشهيد» هذه المرة لم يكن مثل أي سنة أخرى أو مناسبة أخرى، بل اكتسب دلالات ومعانيَ استثنائية. فالشهادة كانت حاضرة في كل لحظة وفي كل مكان.
وفي هذا اليوم أطلّ علينا من مجمع سيد الشهداء، الشهيد محمد عفيف النابلسي، الذي تعوّدنا على إطلالاته الدائمة من قلب الضاحية الجنوبية ومن بين أنقاضها ليكون صوت المقاومة القوي والشجاع. كانت المهمة التي حملها الشهيد على عاتقه هذه المرة أكبر من أن يحملها أي إنسان. كان عليه أن يطلّ ليس بوصفه قائداً مقاوماً ومتحدّثاً إعلامياً فقط، بل بوصفه قائداً استثنائياً وقعت على عاتقه، في ظروف بالغة الحساسية، مهمات كبرى تتجاوز الوظيفة الخطابية التقليدية لقائد إعلامي.
كان عليه أن يقدم أداءً استثنائياً يمثّل أيضاً فعلاً تواصلياً وسياسياً مركّباً، يجمع بين التمثيل الرمزي للمقاومة، والتعبير المؤسسي الحزبي عن استمرارية المشروع المقاوم، وأيضاً أن يكون حلقة وصل القاعدة الشعبية بقيادة المقاومة في لحظة استثنائية وصعبة.
كان عليه أن يتجاوز في أدائه حتى الدور التقليدي والوظيفة السياسية والثقافية ليوم الشهيد. فلم يكن عليه فقط أن يؤكّد التزام المقاومة بإحياء المناسبة والتعهّد للشهداء وعوائلهم بالاستمرار في الطريق وعلى النهج الذي استشهدوا في سبيله، بل وأيضاً بأن يكون، في ذلك الوقت بالذات، صوت المقاومة، والصلة بين المقاومة وأنصارها، وحتى شعوب المنطقة، والعالم.
الأهم، والأصعب، كان عليه في ذلك اليوم أن يستذكر سيد شهداء الأمة الذي رحل قبلها بأيام، وكان غيابه حضوراً طاغياً بذاته أعطى المناسبة هذه المرة أيضاً معنى مختلفاً وإضافياً عن كل مرة، وكان عليه أن يحافظ على تماسكه ورباطة جأشه (صوته كان يختنق أحياناً وهو يجهد لحبس دموعه على الحبيب والأب والرفيق والقائد).
كانت إطلالاته في الحرب، درساً استثنائياً في الإعلام، ودرساً في المقاومة والشجاعة، كشف فيهما الشهيد عن روح تحدٍّ وشجاعة مُذهِلة، وكان يعرف أنهما أكثر ما كان يحتاج إليه جمهور المقاومة وأنصارها
في تلك اللحظة
يومها بالذات، بدا وكأنّ حياة الشهيد النابلسي الحافلة بالمقاومة والبطولة والتضحية كلها، منذ مشاركته في التأسيس في عام 1982، والعمل لاحقاً وبقرب مع أنبل مقاومي الأمة وقادتها، قد أعدّته خصيصاً لذلك اليوم وذلك المؤتمر. ولو أنه لم يفعل في كل حياته غير ما فعله، ولم يقل غير ما قاله، في ذلك اليوم، لكفاه أن يدخل اسمه تاريخ المنطقة والمقاومة «قائداً إعلامياً كبيراً وشهيداً عظيماً على طريق القدس»، كما نعته المقاومة الإسلامية، ولكفاه أداؤه يومها أن يدخل قلب كل شريف وحرّ في المنطقة والعالم.
فيومها بالذات، بدا وكأنّ المسار الطويل الذي راكمه الشهيد النابلسي منذ التحاقه المبكر بالمقاومة، وباشتغاله المتواصل في الحقل الإعلامي المقاوم، يُظهر كيف أن سيرته لم تكن مجرد نتاج خبرة مهنية، بل كانت تعبيراً عن تطوّر معرفي وسياسي مقاوم وجذري مكّنه من أداء الدور الذي أُنيط به في تلك اللحظة المفصلية. هكذا استطاع أن ينقل وظيفة الإعلام من مستوى التوصيف والإبلاغ إلى مستوى الفعل السياسي والكفاحي المباشر، بحيث غدا الخطاب ذاته وبوضوح شكلاً من أشكال المقاومة.
كان أداء الشهيد الحاج محمد مُدهِشاً حتى لبدا فعلاً أن كل سني حياته الشريفة وأيامها كانت تُعِدّه فقط لذلك اليوم. وليس ذلك فقط لأن الشهيد أصبح وحدَه جبهة كبرى كاملة وفعّالة جداً في الحرب، مقابل بنية دعائية وإعلامية هائلة بإمكانات إمبراطورية يمتلكها العدو ومن يسانده في الخارج والداخل، بل لأن يوم الشهيد بالذات له علاقة خاصة وفريدة بالشهيد شخصياً. فهو الذي صاغ مفردة «فاتح عهد الاستشهاديين» في وصف أمير الشهداء، أحمد قصير، الذي تمّ اختيار اليوم (الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام) تخليداً لعمليته التي نُفّذت في ذلك اليوم من عام 1982. لهذا، كان دالاً جداً وذا رمزية هائلة، لم يفكر بها العدو حين أقدم على جريمته، أن يكون مؤتمر «يوم الشهيد» 2024، والبيان الذي تلاه الحاج محمد يومها، هو المؤتمر الأخير والبيان الأخير للشهيد. هل يمكن لأيّ إنسان أن يموت أفضل؟
كان المؤتمر الأخير (2024/11/11) هو الثالث للشهيد الشجاع، والبيان الرابع منذ استشهاد السيد نصرالله. وفي الإطلالة الأولى، في 11 تشرين الأول عام 2024، اختار الشهيد الظهور من بين الأنقاض في الضاحية، وكأنه كان يتقصّد إعادة تشكيل العلاقة بين المكان المُدمّر وخطاب الصمود والمقاومة، محوّلاً الظهور الإعلامي إلى أداء مقاوم بحدّ ذاته. كان هذا توظيفاً عبقرياً للمكان بوصفه عنصراً دلالياً يعزّز سردية الصمود التي استندت إليها المقاومة وخطابها منذ البداية.
وفوق ذلك، كانت هذه الإطلالة أيضاً درساً استثنائياً في الإعلام، كما كانت درساً في المقاومة والشجاعة، كشف فيهما الشهيد متابعته الدقيقة والتفصيلية للإعلام الصهيوني والعالمي والمحلي، كما كشف عن روح تحدٍّ وشجاعة مذهلة كان يعرف أنهما أكثر ما كان يحتاج إليه جمهور المقاومة وأنصارها في تلك اللحظة.
لكن أهم ما ميّز هذه الإطلالة وأعطاها معنى مختلفاً هو الظهور العلني ذاته، في الوقت الذي استشرس فيه العدو في استهداف كل ما له علاقة بالمقاومة وبيئتها. كان الظهور بحدّ ذاته بياناً وموقفاً من المقاومة ومن الشهيد، وإعلان تحدٍّ للكيان يتطلب الكثير من الشجاعة والاستعداد الكبير للتضحية. كانت هذه الإطلالة بتفاصيلها درساً في الإعلام، لكنها كانت بشكلها وبحدّ ذاتها درساً في الشجاعة.
وفي الإطلالات الثلاث، ظهر الشهيد إعلامياً ومقاوماً استثنائياً، لكنه كان أيضاً مثقّفاً ثورياً فذّاً أيضاً. وفي كل مرة بدا وكأنه كان فعلاً يعدّ نفسه ويجهّزها لهذا الدور منذ سنين، أو كأنّ القدر اختاره أصلاً لهذا الدور. فلم يكتف الحاج محمد بحفر مفهوم «فاتح عصر الاستشهاديين»، ليدلّل على مرحلة جديد وفاعلين تاريخيين جدد مع انطلاقة المقاومة في عام 1982، ولو اكتفى بها لكفته.
بل يبدو وكأنه أراد لكل إطلالة أن تكون فعّالة ومؤثّرة بحد ذاتها، وأن تكون فعلاّ بحجم وصورة المقاومة التي وقع على عاتقه تمثيلها وبحجم المقاومين في الميدان الذين صار عليه أن يكون صوتهم. هل يمكن لأي إنسان أن يعيش أفضل؟
وهكذا كان كل مؤتمر صحافي مليئاً بالعبارات والتوصيفات والاقتباسات والدلالات التاريخية التي توحي بأن قائد الجبهة الإعلامية للمقاومة لا يدرك فقط أهمية الكلمة التي كانت في أوج الحرب أقوى فعلاً وأشد من الرصاص، بل وكان يعرف ويُتقِن أكثر من غيره متى وكيف وأين يستخدمها.
هكذا ذكّرنا جميعاً من بين الدمار بأن «المقاومة أمة، والأمة لا تموت». هذه المقاربة لمفهوم «الأمة» ومفهوم «المقاومة» كشفت عن وعي عميق يتجاوز المحدّدات التنظيمية، بحيث تصبح المقاومة، وفق هذا التصوّر، انتماءً وخياراً حضارياً وثقافياً وسياسياً وكفاحياً ممتداً، لا مجرد تكوين سياسي أو حزبي.
هكذا، تمكّن الشهيد، ابن حزب الله، باستخدامه لهذا الإطار، في الوقت المناسب، إعادة بلورة علاقة الجمهور والبيئات الحاضنة بالمشروع المقاوم بعيداً عن حدود الانتماءات الضيقة، وبما يرسّخ خطاب «الأمة المقاومة» كتعبير عن هوية جامعة. هكذا تجذّر في الخطاب والوعي العام مفهوم «أمة حزب الله»، الذي أصبح فيه حزب الله أكبر من أن يكون حزباً مقاوماً وتشكيلات مقاومة، بل بدا فعلاً كأمة كاملة، بكل ثقلها وإرثها الحضاري والتاريخي والثقافي والكفاحي الذي لا يمكن أن تهزمه أو تنهيه الحرب.
وهكذا، أيضاً، ذكّرنا الشهيد بـ«أن ثقافتنا كربلائية وروحيتنا روحية الاستشهاد». ولكنه، أيضاً، ذكّر الجميع بـ«أن هذه المعركة ليست كربلاء، بل إنها معركة خيبر»، إنها «معركة قلع الباب في خيبر». أن يستحضر الشهيد تاريخنا وثقافتنا ويوظّفها بعبقرية كذخيرة كان الناس في بلادنا في أمسّ الحاجة إليها في أوج القتال، تحتاج إلى ما هو أكثر من دور ووظيفة الإعلامي، أو حتى الناطق باسم المقاومة.
في الشجاعة
«بدون شجاعة، لا قيمة للإنسان»، يقول الشهيد الشجاع باتريس لومومبا في أحد نصوصه التي خاطب بها شعبه. وكلمات لومومبا هذه، لها معنى خاص وقيمة كبيرة، وأيضاً فيها الكثير من الصدق، لأن قائلها كان شجاعاً حقاً حتى الموت، ودفع حياته ثمناً لمواقفه ومقاومته وشجاعته التي لم يتخلّ عنها حتى اللحظة الأخيرة من حياته. كلمات لومومبا لها قيمة حقيقية لأنها كُتبت فعلاً بدمه.
واللافت أن كل من رثا شهيد أفريقيا الأعظم، وحزن عليه، توقّف أكثر من أي شيء آخر عند الشجاعة الفائقة لهذا الثائر الاستثنائي (من فرانز فانون إلى فيديل كاسترو، ومن إيمي سيزير إلى مالكولم أكس، ومن جمال عبد الناصر إلى أميلكار كابرال).
كانوا جميعاً يدركون أن الاستثنائي في الأبطال والقادة ليس المعرفة المُفترضة، ولا القدرة على التقدير والتشخيص فقط، وليس الاستثنائي حتى في معرفة ما يتوجّب على القائد والمقاوم والثائر أن يفعلوه فقط. بل في الشجاعة التي يحتاج إليها الفعل، خصوصاً الشجاعة التي تتطلّبها وتفترضها اللحظات الأصعب التي يعرف فيها المقاوم والثائر أن ثمنها سيكون حياتهما.
هكذا أيضاً كان الشهيد محمد عفيف. وبالرغم من أن كل من تابعه التفت إلى الاستثنائية الواضحة في المعرفة، والثقافة والأداء، والدور، والمهنية. وبالرغم من أنه بدا للجميع وكأنه تَجَهَّزَ وأُعِدَّ فعلاً لهذا الدور ولهذه الظروف بالذات. إلا أن الشجاعة المدهشة والجرأة الاستثنائية وروح التحدّي الكبيرة كانت أكثر ما لفت الناس إلى الناطق باسم المقاومة.
كان الشهيد النابلسي يعرف أنه يمكن للجميع أن يردّد عبارة الإمام علي «والله لو لقيتهم فرداً وهم ملء الأرض ما باليت ولا استوحشت»، ولكنه كان يعرف أن الشجاعة الحقيقية والبطولة الحقيقية هما في أن تعيشهما، أن تعمل بهما، لا أن تردّدهما فقط.
وهو قالهما وعاشهما فعلاً. فلم تكن الشجاعة عنده قيمة خطابية، بل كانت ممارسة وفعلاً، كما هي المعرفة الثورية الحقيقية، وكما يظهر في قوله في أوج العدوان والتهديد باغتياله: «لم يخفنا القصف، فكيف تخيفنا التهديدات». وهذه العبارة بالذات، وفي تلك الظروف بالذات، تُلخّص نمطاً قيادياً استثنائياً يدمج بين الوعي والقرار، وتظهر فيه الشجاعة على الفعل أكثر من أي شيء آخر.
كان حينها قائداً يقارب مجرد ظهوره العلني في شجاعته الفعل الاستشهادي. لهذا، لم يكن كربلائياً بالقول فقط حين استدعى كربلاء، بل كان كربلائياً أيضاً بالروح والفعل. وفي كل إطلالة كانت شجاعته تذكّرنا بما نحتاج إليه فعلاً في هذه الظروف. ما نحتاج إليه ليس فقط الشجاعة كقيمة فردية فقط، بل الشجاعة أيضاً كقيمة مُنتَجة مؤسّسياً.
خاتمة: اسمعوه مرّتين
بعد ستة وثلاثين عاماً على استشهاد فكتور جارا، في الثالث من ديسمبر 2009، وبعد عودة حزبه الذي نطق باسمه حياً ومثّله شهيداً للسلطة مرة أخرى، تقدّمت زعيمة الحزب ووريثة سلفادور أليندي، ميشيل باشيليت، رئيسة البلاد حينها، عشرات الآلاف في التشييع المتأخر لجثمانه، بعد أن تعرّفوا إلى جثمانه أخيراً.
بعد أكثر من ثلاثة عقود على استشهاده، عادت قصائد فيكتور جارا تُغنّى من جديد على ألسنة الناس والفقراء والعمال والطلبة في تشيلي وأميركا اللاتينية والعالم. لكنهم جميعا كانوا يعرفون أن أعظم قصيدة كتبها جارا كانت تتجاوز اللغة والكلمات التي سمعوها وقرؤوها في شعره. فقصيدته الأجمل والأكثر خلوداً كانت في حياته، وكيف عاشها، كما كانت في استشهاده بهذه الشجاعة الفائقة. وكانوا يعرفون أنه كان محقاً جداً حين قال، إن «الأغنية التي تُغنّى بشجاعة تظل أغنية جديدة إلى الأبد».
وفي لبنان، لم تكشف تجربة الشهيد محمد عفيف النابلسي عن نموذج جديد من المقاومة والمقاومين والقادة الإعلاميين الذين لا يكتفون بوظيفة الإبلاغ والتوصيف فقط، بل كشفت عن نموذج من القادة الإعلاميين والمقاومين الذين يتحولون إلى منتجي وعي وإرادة ومقاومة.
كشفت تجربته الفذّة عن نموذج يتجاوز الإمكانات الفردية ويرتبط عضوياً بالبنية المؤسسية للمقاومة الجدّية ووظيفتها ودورها التاريخي. فلم يكن ممكناً للمسؤول الإعلامي للمقاومة أن يكون مجرد إعلامي استثنائي آخر، لهذا لم يكن الشهيد محمد عفيف مجرد إعلامي استثنائي آخر. كان عليه أيضاً أن يقود جبهة كبرى وأساسية في حرب كبرى، وأن يعوّض الخلل الهائل في الإمكانات في مقابل بنية تحتية إمبراطورية المستوى والإمكانات، بشجاعة فائقة حدّ الاستشهاد.
وفي السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، بعد ستة أيام على «يوم الشهيد»، استشهد الحاج محمد عفيف النابلسي. لكن، كانت الحرب لا تزال مستمرة، وستظل المقاومة مستمرة حتى تحرير لبنان وفلسطين والمنطقة. وحتى ذلك اليوم، وبعده، سيتذكّر المقاومون وبيئاتهم الحاضنة دائماً الشهيد محمد عفيف.
سيتذكّرون شجاعته، وسيتذكّرون بياناته، وسيردّدون كلماته دائماً. لكن سيدرك الجميع أن أعظم بياناته كانت تلك التي تتجاوز لغة الكلمات. سيتذكّر الجميع أن بيان الشهيد الشجاع الأهم كان في حياته، وكيف عاشها مقاوماً شجاعاً بطلاً، كما كانت في استشهاده بهذه الشجاعة الفائقة.
لهذا، اسمعوا الشهيد محمد عفيف النابلسي. اسمعوه مرّتين: مرة لتعرفوا ما هي المقاومة وما هي البطولة، ومرة أخرى لتعرفوا ما هي الشجاعة.
د.سيف دعنا _ أمريكا
