تنفيس البالون السوري
ناصر قنديل

– لعل مشهد استقبال الرئيس الأميركي دونالد ترامب لـ “نظيره” السوري أحمد الشرع قد طوت إلى أجل غير معلوم كل الهالة التي بذل ترامب والشرع والنظام العربي والأتراك جهوداً استثنائية لتسويقه عن الحكم الجديد في سورية، فقد أسقطت الدوائر القانونية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والكونغرس مدعومة من البنتاغون وأجهزة المخابرات والدوائر الدبلوماسية التقليدية في وزارة الخارجية، باستثناء مكتب الوزير، ما كان تعبيراً عن رغبة سياسية بمعاملة الشرع معاملة رؤساء الدول، واضطرت الإدارة للرضوخ لمعايير أدت إلى استقبال باهت، تمثل بإدخال الشرع من باب جانبي غير الباب الرئيسي الذي يدخل منه الرؤساء، كما اضطرت لاستبعاد حضور وسائل الإعلام للقاء، واعتمدت ترتيب الجلوس بطريقة يبدو فيها وجود رئيس واحد هو الرئيس الأميركي يجلس وراء مكتبه وإلى جانبه علم واحد هو العلم الأميركي، ومقابله مجموعة كراسي جلس عليها ضيوفه من مسؤولين أميركيين وسوريين، بدلاً من الجلوس على مقعدين متجاورين تتوسطهما أعلام.

– أدّت المبالغات الإعلامية التي اعتمدتها قنوات عربية مثل “الجزيرة” و”العربية” في التمهيد لزيارة تاريخية والاستقبال الاحتفالي إلى قيام هذه القنوات بالتعتيم على ما جرى وتجاهل أي نقاش يستكشف أبعاده ومعانيه، وأولها ما كتبه محللون أميركيون، أن الشرع في المعيار الأميركي لم يصبح بعد رئيساً وهو مجرد قائد تمرد سيطر على السلطة، وأنه من المبكر الحديث عن رفع العقوبات، التي يمكن للرئيس تعليقها تحت عنوان منح فرصة لإرهابي جرت إزالة اسمه عن لوائح الإرهاب ليثبت أنه غادر تاريخه إلى غير رجعة، لكن تعليق العقوبات الذي يتيح تسهيل مهمة تلقي المساعدات لا يمكن الرهان على اجتذاب المستثمرين الذين يريدون الشعور بالاستقرار، من خلال إجراء من غير المؤكد انتهاء مفعوله مع نهاية المهلة.

– الواضح أن مشهد واشنطن ليس بروتوكولياً بل سياسي بامتياز، فالاستيلاء على سورية بضربة تركية إسرائيلية أميركية مشتركة حازت دعماً عربياً وتولت جبهة النصرة دور الذراع التنفيذي لها، يشبه خطة الرئيس الأميركي لإنهاء حرب غزة، حيث لا وضوح إلا في الخطوة الأولى، وبعدها تبدأ التعقيدات، وكما أن مواصلة خطة غزة يستدعي تفاهماً بين “إسرائيل” وكل من تركيا والسعودية ومصر، حول تركيبة القوة الدولية وطريقة تشكيلها وصلاحياتها ومرجعيتها، وتعجز واشنطن عن صناعة هذا الاتفاق، كذلك فإن الخطوة الثانية بعد إسقاط النظام السابق في سورية كانت ولا تزال تحتاج توافقاً بين “إسرائيل” وتركيا وأميركا وجبهة النصرة حول كيفية التعاون في صيغة سورية الجديدة، وهو ما يبدو مستحيلاً بمثل استحالة حسم أميركا لترجيح كفة طرف على الآخر، ومثلما تتآكل خطة ترامب في غزة، يتآكل الوضع في سورية، وكل ما لم يحسم في الشهور التي مضت على تسلم سورية، يبدو أكثر صعوبة على الحسم بعد هذه الشهور.

– الواضح أن جبهة النصرة ليست متماسكة حول رؤية العلاقة التي يذهب بها رئيسها الجولاني نحو أميركا باسمه الجديد وصفته الجديدة، والواضح أن الجماعات المسلحة تتحسس رقابها من صفقات يجريها الشرع على رؤوسها كثمن لتوطيد حكمه، وبالمقابل فإن ما ظهر يؤكد ما كان مجرد تخمينات حول عدم قدرة الرئيس ترامب على فرض رؤيته للعلاقة بالشرع على الدولة الأميركية، حيث لا يزال الثقل للذين يرون أنه من المبكر الوثوق بأن الشرع قادر على تحويل بنية التنظيمات التي اعتمد عليها في المرحلة الجهادية أو الإرهابية الى بنية مدنية قادرة على تسلم الحكم وإدارة الدولة، وأن أميركا لا تستطيع التورط بتجربة أفغانستان جديدة كما حدث بعد التسعينيات ونهاية الحكم السوفياتي فيها، وأن موقع سورية الجيوسياسي يفرض حسم الصراع التركي الإسرائيلي على الحصص في سورية وهو ما يفوق طاقة أميركا، بينما في تركيا اعتقاد بأن ما تمّ في سورية كان استثماراً تركياً خالصاً شارك معها الآخرون في أرباحه لكن لا يحق لهم وضع اليد عليه، والداخل التركي يسأل الحكم عن نتائج هذا الاستثمار وهو يرى أن “إسرائيل” التي ارتكبت جرائم الإبادة في غزة تستولي على سورية ويراد لسورية أن تذهب إلى توقيع اتفاق مع “إسرائيل” يمنع الطيران التركي من استخدام الأجواء السورية ويجعلها تحت السيطرة الإسرائيلية، بينما “إسرائيل” التي فشلت في إنهاء المقاومة في لبنان وغزة، تحتاج إلى احتكار عائدات سقوط سورية لقديمها نصراً إسرئيلياً خالصاً، فيما يغلي الداخل السوري تحت ضغط الفقر والفلتان الأمني والفوضى وخطاب التطهير الطائفي والانقسام الحاد حول مستقبل الدولة مع الجماعات الكردية التي رصد لها البنتاغون 136 مليون دولار في موازنة 2026.