“حين سُرق الدين من جوهره… وانكشف الإيمان في وجه الطوفان”

بقلم:فاتنة علي،لبنان

الدين… جوهر الإيمان و ليس طقوسًا تُمارس، ولا شعائر تُؤدى وحسب، بل هو الإيمان العميق بكل ما يرسّخ الخير والحق والعدل.
فإيمانك بوجود الله هو دين، وإيمانك بالحق هو دين، وإيمانك برفض الظلم والتمرد عليه هو دين.
إيمانك بالالتزام الأخلاقي، وبالإحسان للآخرين، وبصفاء النية، وطاعة الوالدين — كل ذلك دين.

ولعلّ الرسول محمد ﷺ لخّص الغاية من بعثته حين قال:

“إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.”
وهذا ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى:
“وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم.” (سورة القلم: 4)

أي أن الدين في جوهره أخلاق، وأن كل إيمان لا يقوم على قاعدة أخلاقية صلبة، هو إيمان ناقص.
وكما قال الشاعر أحمد شوقي:

“إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.”

فإذا اختلت هذه الركيزة، فمهما صلّيت أو صمت أو زكّيت، فلا دين لك حقًا، لأنك فقدت جوهره الأول: الضمير.

لقد عرف التاريخ أشكالًا كثيرة من الاستعمار، لكن أخطرها كان الاستعمار الثقافي، ذلك الذي لا يحتل الأرض بل يحتل العقول.
جاء هذا النوع من الاحتلال ليعبث بالوعي الجمعي للأمم، ويزرع التطرف والجهل باسم الدين، محرفًا جوهره الإنساني.

ففي التاريخ المسيحي، ظهرت البروتستانتية التي انقلبت على الكنيسة تحت شعارات الإصلاح، لكنها مهّدت أيضًا لحروب دينية مروّعة.
وفي العالم الإسلامي، صُنعت حركات متطرفة تدّعي الجهاد، فصارت تقتل وتذبح وتغتصب باسم الله، وكأنها تقطع رأس إنسان كما يُقطع رأس شاة.

“لا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق.” (القرآن الكريم – سورة الأنعام: 151)
“لا تقتل.” (الوصايا العشر – سفر الخروج 20:13)

بهذا الخلط، نُفّر العالم من الدين، وأصبح صوت “الله أكبر” يزرع في أذهان كثيرين الخوف بدل السلام.
لكن الدين بريء من كل هذا، فالله لم يبعث رسله ليزرعوا الرعب، بل ليزرعوا الرحمة.

“وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين.” (سورة الأنبياء: 107)

لنرى التطابق بين الرسالات
إذا عدنا إلى الوصايا العشر في الإنجيل، وقرأناها بجانب وصايا القرآن، سنجد أن لا اختلاف بينهما في جوهر القيم:
الصدق، البرّ بالوالدين، تحريم القتل، الزنا، السرقة، شهادة الزور، والطمع.
حتى في العهد القديم (التوراة)، نجد الجذر الأخلاقي نفسه الذي يدعو إلى التقوى والعدل والرحمة.

لكن القوى التي أرادت السيطرة على الشعوب لبست الدين ثوبًا زائفًا، وأطلقت عليه اسم “الإبراهيمية الجديدة”، مستغلةً فكرة التقارب بين الأديان لأهداف سياسية لا روحية.
وهذا النهج ليس جديدًا؛ فقد استخدم في الحروب الصليبية، وتكرّر عند إنشاء الكيان الصهيوني الذي أُعطي هوية دينية باسم “اليهودية”، بينما هو في الحقيقة مشروع صهيوني استعماري.
ومثلما استُغلّت اليهودية، استُغلت أيضًا الحركات الإسلامية المتطرفة من داعش إلى طالبان التي كان للغرب يدٌ في صناعتها ودعمها، ثم ظهر لاحقًا في دور “المخلّص” الذي يحاربها!
وهكذا كُوي وعي الشعوب وغُسلت عقولها، حتى باتت ترى في الدين خطرًا بدل أن تراه طوق نجاة.

ثم جاء الطوفان… طوفان الوعي والمواقف والمقاومة.
فانقلب المشهد، وتبدّلت الصورة.
في غزة الصامدة، وفي جنوب لبنان المقاوم، تبيّن للعالم أن الدين الحقيقي ليس صراخًا ولا ذبحًا، بل صمودًا وثقافةً وإيمانًا بالكرامة والحق.

هنا ظهر الدين كما أراده الله:

“إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.” (سورة النحل: 90)

لقد صدّرت غزة وجنوب لبنان للعالم الصورة الحقيقية للإيمان: أننا لم نكن يومًا معتدين، بل كنا نحمل رسالة دفاع عن كرامة الإنسان.
فالقوى الظلامية التي تحكم العالم اليوم لا تخاف من جيوش مؤمنة، بل تخاف من عقول مؤمنة، لأنها تدرك أن الإيمان الواعي سيقضي على الاستغلال، والطبقية، والهيمنة، والعبودية الجديدة.

العقل… الهبة الإلهية العظمى
لسنا أبناء صدفة، بل أبناء عقلٍ وهبه الله لنا دون سائر المخلوقات، حتى الملائكة.
فبالعقل نُدرك، ونفرّق، ونختار.
أما إبليس، فامتلك مكرًا لا عقلًا، لأن العقل يهدي إلى الحق، والمكر يضلّ عن السبيل.

“أفلا تعقلون؟” (القرآن الكريم – تكررت في أكثر من آية)
“تعالوا نتحاجج معًا، يقول الرب.” (سفر إشعياء 1:18)

فالعقل هو البوصلة التي لا تضلّ أبدًا، إذا استنارت بالإيمان والضمير.

نحن أمام نبعٍ عذب من الإيمان والمحبة والسلام، مصدره الأخلاق، وغايته الإنسان.
من فقد الأخلاق، فقد دينه، ومن فقد عقله فقد بوصلة الحق.
ولذلك، في عالمٍ امتلأ بالزيف، من يملك عقلًا نيرًا، وإيمانًا راسخًا، وضميرًا حيًا، هو من البشر الذين يعيدون للدين معناه، وللإنسان إنسانيته.

“الدين هو الأخلاق، والأخلاق هي روح الإيمان.”