الإمارات ورواندا… نماذج لقوى امبريالية فرعية
–نذير محمد
في الآونة الأخيرة، تصاعدت التقارير حول الوضع الكارثي في السودان، خصوصاً في مدينة الفاشر التي تشهد إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في المنطقة، وسط اتهامات متزايدة للإمارات بلعب دور غير مباشر في الجرائم المرتكبة هناك عبر دعمها لميليشيا «قوات الدعم السريع». وفي الوقت نفسه، تداولت وسائل الإعلام يوم السبت الماضي خبراً عن اتفاق سلام في اطار تكامل اقتصادي برعاية أمريكية بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، يُفترض أن يضع حدّاً للنزاع الدموي بين البلدين — ذلك النزاع الذي أدى إلى تهجير ملايين من شعب الكونغو وسقوط أعداد هائلة من القتلى والجرحى على يد ميليشيا «إم23»، المتورطة في انتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
إن تزامن هذه الأحداث يسلّط الضوء على دور كل من الإمارات ورواندا كقوتين إقليميتين صاعدتين تمارسان نفوذاً إمبرياليا فرعيا في إفريقيا وغيرها (بالنسبة لأبو ظبي) عبر التدخلات غير المباشرة أي عبر دعم وكلاء محليين، ما يثير تساؤلات عميقة حول تحولات موازين القوة في القارة وكيف وصلت الدولتان إلى هذا الموقع الجديد في المشهد الجيوسياسي الراهن.
1- الاطار المفاهيمي
قبل التطرق الى الموضوع لا بد من فهم معنى مصطلح الامبريالية الفرعية
وهو مفهوم ابتدعه عالم الاجتماع والناشط الماركسي البرازيلي الراحل روي ماورو ماريني ويشير في هذا السياق إلى الظاهرة التي تعمل فيها دولةٌ، من دون أن تكون قوة إمبريالية عالمية كبرى، بطرق تتماشى مع، أو تدعم، مصالح القوى الإمبريالية العظمى، وتتصرّف بشكل إمبريالي داخل منطقتها. وتتميّز هذه الظاهرة بتمدد النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري لدولة ما على دول أو مناطق أخرى، غالباً بالنيابة عن، أو بالتعاون مع، القوى العالمية المهيمنة.
و طرح هذا المفهوم في سياق فهم الوضع البرازيلي, تحديدا في مقالته الشهيرة “البرازيل-دولة امبريالية فرعية؟” التي نشرت عام 1969 ثم طوره لاحقا في كتابه “التبعية والتطور” عام 1973
2- الأدوار الإماراتية في المنطقة العربية عامة
قبل الحديث عن الدور الاماراتي في السودان لا بد من الحديث عن بروز الامارات كدولة التي نعرفها حاليا وسيتم التركيز حصرا عن دورها في المنطقة في العقدين الأخيرين
عرفت الإمارات منذ مطلع الألفية الجديدة مساراً تصاعدياً نحو التموقع كقوة محورية في الإقليم العربي. فقد اعتمدت على مواردها المالية الهائلة، وانفتاحها الاقتصادي، وعلاقاتها المتشابكة مع القوى الغربية لتتحول تدريجياً من دولة ريعية صغيرة إلى مركز نفوذ سياسي واقتصادي. وبحلول عام 2011، كانت الإمارات قد رسّخت حضورها في مختلف المجالات: من الاستثمار العابر للحدود إلى الانخراط في الدبلوماسية النشطة، لتصبح نموذجاً لدولة صغيرة تسعى إلى لعب أدوار تفوق حجمها الجغرافي والديمغرافي.
غير أنّ التحوّل الحقيقي بدأ مع اندلاع ما سمي بالربيع العربي سنة 2011، حين تبنت الإمارات سياسة أكثر هجومية وسعت إلى إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية بما يخدم نموذجها السياسي والاقتصادي، استخدمت لذلك أدوات متعددة، من الدعم المالي والإعلامي إلى التدخل العسكري المباشر وغير المباشر سواء في اليمن (أ) أو الصومال (ب) أو فيما يخص القضية الفلسطينية (ج) وغيرها من البلدان العربية (د)
أ- النفوذ الاماراتي المتنامي في اليمن
في اليمن كانت الامارات من بين المشاركين في عاصفة الحزم الى جانت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وهو تحالف عسكري تكون في مارس 2015 والتي كان هدفها استرجاع ما يعرف بالحكومة اليمنية “الشرعية” برئاسة الهادي التي سقطت في سبتمبر 2014 على يد حركة “أنصار الله” وحلفائها إثر الانتفاضة التي حصلت هناك
شاركت الامارات بثقلها العسكري في الحرب التي تسببت في ازمة إنسانية حادة
بين عامي 2015 و2022 (اتفاق وقف إطلاق النار) وفقا لبيانات» مشروع بيانات اليمن»، بلغ عدد ضحايا الغارات الجوية (القتلى والجرحى المدنيين) بنهاية مارس 2022 حوالي 19,226 شخصا، منهم حوالي 8,983 قتيلا – من بينهم 842 امرأة و1,424 طفلا.
وأفادت وزارة الصحة اليمنية في صنعاء أن إجمالي عدد الضحايا المدنيين (قتلى وجرحى) جراء هجمات الحرب بين 26 مارس 2015 و27 أوت 2022، بلغ 47,081 شخصا – منهم 15,483 قتيلًا و31,598 جريحًا.
لم تقتصر مشاركة دولة الإمارات في التحالف العسكري على مجرد كونها عضواً فيه، بل تطور نفوذها في اليمن بشكل ملحوظ منذ عام 2017، حين دعمت بقوة المجلس الانتقالي الجنوبي وأذرعه العسكرية، مثل “قوات الحزام الأمني” و”ألوية الدعم والإسناد”. ومع هذا التحول، لم يعد هدفها يتطابق تماماً مع الهدف السعودي المعلن والمتمثل في “القضاء على الحوثيين”، بل أصبح يتمثل في تمكين المجلس الانتقالي من تحقيق مشروع الانفصال في الجنوب.
وقد أدى هذا التباين في الأهداف إلى بروز خلافات واضحة بين الإمارات والسعودية حول إدارة الملف اليمني. فبينما تؤكد أبو ظبي أن تدخلها يهدف إلى مواجهة حزب الإصلاح المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم “القاعدة”، يرى عدد من المحللين أن الدوافع الحقيقية تتجاوز ذلك، إذ ترتبط برغبة الإمارات في السيطرة على موارد الجنوب النفطية والغازية واستغلال موقعه الجغرافي الاستراتيجي، فضلاً عن سعيها إلى إضعاف ميناء عدن حتى لا يشكل منافساً لميناء دبي.
وفي 30 أفريل 2018، عززت الإمارات وجودها العسكري في أرخبيل سقطرى في بحر العرب، حيث أرسلت أكثر من مائة جندي مدعومين بالمدفعيات والمدرعات. وقد وصلت الدفعة الأولى عبر طائرة عسكرية تحمل أكثر من خمسين جندياً ومركبتين مدرعتين، تلتها دفعات أخرى تضم دبابات ومعدات عسكرية إضافية.
ولم يقتصر النفوذ الإماراتي على الجانب العسكري، بل امتد إلى التأثير السياسي أيضاً، إذ باتت قرارات المجلس الانتقالي الجنوبي برئاسة عيدروس الزبيدي تعكس إلى حد بعيد توجهات أبو ظبي. وعلى الرغم من تولي الزبيدي منصبا وزارياً في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، فإن نفوذ المجلس الجنوبي، المدعوم إماراتيا، لا يزال قائما ومؤثرا في الجنوب.
ب- الامارت و دعم الانفصاليين في ارض الصومال
نمر الى جار اليمن, جمهورية الصومال حيث للامارات نفوذ تحديدا في منقطة “أرض الصومال” هي جمهورية التي سبق أن أعلنت انفصالها عن باقي أراضي الصومال عام 1991، لكن المجتمع الدولي لا يعترف بها كدولة مستقلة
هذا لا يمنع الامارات انها تحضر سريع اقتصاديا ثم تحول تواجدها الاقتصادي والتجاري إلى تواجد عسكري فقط. ولتعزيز عسكرة وجودها في القرن الإفريقي حيث حصل اتفاق مع أرض الصومال الانفصالية عام 2017 وبموجبها استحوذت تشغيل ميناء “بربرة” وبناء قاعدة عسكرية إماراتية في مدينة “بربرة”، ما أثار جدلاً واسعاً في البلاد، وذلك بعد أن ألغى البرلمان الصومالي رخصة شركة موانئ دبي لتشغيل موانئ في الصومال.
تقول الباحثة نجاح عبدالله سليمان في مقالتها المنشورة في موقع “الميادين” أن ” سبق في نيسان/ أبريل 2018 أن تصاعدت وتيرة الخلاف (الصومالي- الإماراتي)، وعندها انتقلت العلاقة بين البلدين بشكلٍ مُفاجئٍ من الدفء والتعاون إلى الشِقاق وتبادل الاتهامات؛ فبعدما كانت مقديشو تثني على الدور الإماراتي في مساعدتها على مواجهة الاضطرابات والعنف، أصبحت تتّهمها بتمويل الانفصاليين ودعم نشر الفوضى وشراء ولاءات في الداخل. كما بدأت أبوظبي تتّهم السلطات في مقديشو بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، وتوقف بعض مشروعاتها “الخيرية”، وهي التي كانت قبلها تُعرِب عن دعمها للسلطة نفسها في حربها على الإرهاب”
ثم اضافت
“تطوَّرت الأحداث بعدها حتى أعلن وزير الدفاع الصومالي، محمّد مرسل شيخ عبد الرحمن، إنهاء وجود الإمارات العسكري في البلاد، ونقل المهام التدريبية، التي بدأت عام 2014، إلى قيادة الجيش الوطني. وإن جاء هذا الإجراء بعد مصادرة سلطات مطار مقديشو الدولي حينها، 10 ملايين دولار كانت على متن طائرة إماراتية خاصة، واحتجاز طائرة أخرى خاصة، كانت تقلّ معدّات وأجهزة عسكرية حاول ضبّاط إماراتيون نقلها إلى بلدهم.”
كما أكدت أن “كذلك سبق أن اتهم تقرير للأمم المتحدة قبل منتصف 2018حكومة أبوظبي بدعم “حركة الشباب” الصومالية الموالية لتنظيم القاعدة. وجاء تقرير لبعض الحملات إن “الحملة الدولية لمقاطعة الإمارات، أبوظبي جلبت أكثر من ثلاثة آلاف مرتزق إلى الصومال بغرض تعزيز نفوذها في البلد المُصاب بالفوضى. وأن الجزء الأكبر من هؤلاء المرتزقة تمركز في قاعدة (بربرة) العسكرية التابعة للإمارات، وأماكن دعم لوجستي في مناطق لا تخضع للسلطة المركزية الصومالية”.
ونلاحظ المشترك بين نفوذ الامارات في اليمن والصومال هي سيطرتها على مضيق باب المندب
ج-الامارات و القضية الفلسطينية
لم يكن الموقف الاماراتي من الحق الفلسطيني إيجابيا بل كانت الامارات اول الدول في الاتفاقيات الابراهيمية
أعلنت الامارات في اوت سنة 2020 عن تطبيع علاقتها مع “إسرائيل” وانضمت الى الاتفاقية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية
الأمر لا يقتصر فقط على مجرد علاقات دبلوماسية بل حتى على المستوى الاقتصادي والتجاري ففي حجم التجارة والاستثمار (أرقام حديثة ملخصة): أظهرت تقارير 2024/2025 نموًا ملحوظًا — التجارة في السلع بين البلدين بلغت ما يقارب 3.2 مليار دولار (سنة 2024، سلع فقط – من غير البرمجيات والخدمات الحكومية)، والاستثمارات الثنائية تجاوزت عدة مليارات مع إسهامات إماراتية بارزة في صناديق واستثمارات موجهة حسب موقع N7 Initiative
كما أعلنت الحكومة الإماراتية عن آليات/صناديق للاستثمار والتعاون (مثلاً إعلان عن صندوق استثماري/آلية بقيمة 10 مليارات دولار للاستثمار في “إسرائيل” عبر قطاعات متعددة). هذا يعكس رغبة أبوظبي في استغلال رأس المال لتحقيق شراكات تكنولوجية وصناعية (حسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإماراتية) و هذا للذكر لا الحصر
في العامين الأخيرين، ومع تواصل الإبادة في غزة، لم تكتفِ الإمارات بالحفاظ على مستوى علاقاتها مع “إسرائيل”، بل عملت على تعزيزها وتوسيعها عبر تقديم خدمات متعددة الأبعاد تصبّ في مصلحتها. فقد أدانت أبوظبي عملية السابع من أكتوبر 2023 ووصفتها بـ“الإرهابية”، كما صنّفت حركة حماس كتنظيم إرهابي، ما يعكس انحيازها الواضح إلى الرواية “الإسرائيلية”.
وفي ظل المجازر والتجويع الممنهج الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، اكتفت الإمارات بعمليات إنزال محدودة للمساعدات، اتّسمت بطابعٍ استعراضي وإعلامي ضخم يفوق حجمها الحقيقي، إلى جانب ما وُصف بـ“قوافل إغاثية وهمية”.
كما أُثيرت مزاعم حول استخدام “الهلال الأحمر الإماراتي” في أنشطة تجسسية داخل القطاع، فضلًا عن تقارير تتحدث عن دعمها لميليشيات معادية لحركة حماس تعرف باسم “أبو شباب”.
د-الامارات وما تبقى من الدول العربية
كما اضطلعت الإمارات بدور بارز في ليبيا، حيث دعمت قيادة المشير خليفة حفتر سياسيًا وعسكريا، سواء أثناء الحرب أو بعدها، كما أُثيرت مزاعم حول تورطها في محاولة انقلاب ضد الرئيس التونسي الأسبق الباجي قايد السبسي سنة 2017، إلى جانب توسع نفوذها السياسي والاقتصادي بعض البلدان من خلال استثماراتها مثلا في المغرب و مصر، وتوتر علاقاتها مع الجزائر
3- الامارات و السودان
نظرا للاحداث الأخيرة و اهيمة الموضوع لا بد من التطرق لموضوع الامارات و السودان في نقطة منفصلة عن الجزء السابق.
في الأول نسجت الإمارات علاقاتها مع نظام عمر البشير، ثم عمّقت تحالفها مع قوات الدعم السريع، وريثة ميليشيات الجنجويد التي ارتكبت فظائع ضد المدنيين والمتمردين خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. ومع اندلاع ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بالبشير في أفريل 2019، واجهت الإمارات تحدياً في الحفاظ على نفوذها في السودان دون الظهور معادية للثورة. وقد جاء الحل من خلال سياسات استمالة، واستثمار طويل الأمد، خصوصاً عبر دعم قوات الدعم السريع.
برزت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) كوكيل للإمبريالية الفرعية الإماراتية، إذ شاركت في الإطاحة بالبشير ضمن المجلس العسكري الانتقالي، ثم أصبحت لاعباً أساسياً في الحكومة الانتقالية. وقد ازدهرت العلاقة بين الإمارات والدعم السريع منذ 2015، عبر دعم الإمارات العسكري واللوجستي والسياسي، مقابل سيطرة دقلو على تجارة الذهب في السودان، خصوصاً في دارفور ومناطق طرفية، الذي كان يُهرب جزئياً إلى الإمارات، مما عزز نفوذها الاقتصادي والسياسي في البلاد
مع اقالة الحكومة المدنية في أكتوبر 2021 حافظت الإمارات على روابطها مع القيادة، موازنة بين مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، بينما ظل الدعم السريع أداة مركزية لنفوذها. وفي الحرب بين الجيش والدعم السريع في أفريل 2023، برزت قدرة قوات حميدتي على السيطرة والتسلح بشكل استثنائي، ما يعكس الدعم الخارجي الطويل الأمد.
على مستوى أوسع، استخدمت الإمارات أدوات اقتصادية وسياسية وعسكرية لتوسيع نفوذها في إفريقيا، من خلال الاستثمار في الموانئ والطاقة والبنية التحتية والتعدين، متحكمةً في الموارد الحيوية لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى. في السودان، تجسّدت هذه الاستراتيجية عبر الدعم المستمر لقوات الدعم السريع، وتحقيق مصالحها في الذهب والموارد الطبيعية، ما جعلها لاعباً أساسياً في النزاع. (مقتطفات من مقال “الامريالية الفرعية في السودان لحسام عثمان محجوب ترجمة عثمان محجوب سيد احمد المنشور في 30 أكتوبر 2025)
مع سقوط مدينة الفاشر في يد “الدعم السريع” ارتُكبت فيها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، شملت إعدامات ميدانية لأسرى الجيش والمدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، وتم توثيق ذلك بالصورة، إلى جانب تقارير تشير إلى وقوع حالات اغتصاب وتعذيب.
ويذكر أن حتى شركاء (حتى حلفاء) الامارات مثل مصر والسعودية وبدرجة أقل قطر منحازين الى الجيش السوداني أي الامارات هي تقريبا الدولة العربية الوحيدة الداعمة لقوات الدعم السريع
4- صعود رواندا ودورها في جمهورية الكونغو الديمقراطية
بعد أن ركزنا في الجزء الأول على الدور الإماراتي في المنطقة العربية، سننتقل للتركيز على الدور الرواندي في الكونغو الديمقراطية (ب)، مع ضرورة فهم كيف صعدت النظام الرواندي (أ)
أ- صعود رواندا (نظام بول كغامي)
في أعقاب الإبادة الجماعية عام 1994 كانت رواندا في حالة دمار شامل، فتقدمت الجبهة الوطنية الرواندية ذو الغالبية التوتسية بقيادة بول كاغامي إلى السلطة لتقود عملية إعادة البناء. ركّزت الحكومة الجديدة في البداية على استعادة الأمن والاستقرار وإعادة الثقة إلى مؤسسات الدولة، فبدأت بإصلاح المنظومة الأمنية واعتماد سياسة “صفر تسامح ضد الفساد”، وشرعت في ترميم البنية التحتية من الطرق والمستشفيات والمدارس. ولملمة آثار النزاع، شكلت حكومة وحدة وطنية ضمت رئيسًا هوتيًا فخريًا وبعض الوزراء التابعين للجبهة، ونُظِّمت برامج للمصالحة الوطنية وإعادة الإدماج الاجتماعي. وتكلّلت هذه المرحلة بإرساء نظام سياسي موحّد عرف فيه كاغامي السيطرة الفعلية؛ فقد استُحدث دستور ينظِّم سلطات الحكومة مع الحفاظ عمليًا على هيمنة حزب واحد، وصارت أي انتخابات تُجرى ضمن إطار ضيق تخضع فيه السلطة لخيارات القيادة الحزبية.
تصدرت رواندا الأخبار بفضل نموها الاقتصادي السريع الذي تراوح بين 6% و8% سنويًا. على السطح، تبدو هذه الأرقام مبهرة، ودائما ما نسمع عن “الاستثناء الرواندي” أو “المعجزة الرواندية” خاصة مع مشاريع مثل مركز كيغالي للمؤتمرات الذي كلف أكثر من 300 مليون دولار
. لكن وراءهذا التقدم “المبهر” قصة أخرى, وفقًا لبيانات البنك الدولي نفسه، يعيش أكثر من 38% من السكان تحت خط الفقر، ويعتمد 77% من الروانديين على دخل الكفاف من موارد الزراعة الأساسية، بينما تصل شبكة الكهرباء فقط إلى 46.6%، كما إن معدلات التعليم والصحة هي من الأسوأ في المنطقة
كما أنها وفق الاحصائيات تعتمد رواندا بشكل كبير على المساعدات الدولية وليس على قدراتها الذاتية. تشكل تلك المساعدات ما بين 20% و30% من الدولة. ترتبط هذه الأموال بشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي تفرض على الحكومة النيو ليبرالية التركيز على القطاعات التصديرية كالتعدين والفلاحة
بنَى النظام شرعيته على ربط الأمن بالتنمية؛ فرُوِّج في الأوساط الرسمية لفكرة أن النمو الاقتصادي المرتفع وانخفاض نسبة الفقر في البلاد كانا ثمرة لاستتباب السلم، وأن هذه المكاسب تثبت جدوى حكم الحزب الحاكم. في الوقت نفسه لعبت نخبة عسكرية متماسكة دورًا حاسمًا في صون النظام؛ إذ أعيد دمج قوات الجبهة مع عناصر الجيش السابق في قوات وطنية جديدة تولاها كبار الضباط المنخرطون في صفوف الجبهة من قدامى المحاربين، فشكّلوا شبكات ولاء داخل الجيش والإدارة تدعم هيمنة الحزب. كما. النظام يفرض سيطرة صارمة على الحياة السياسية. يتم قمع المعارضة بشدة، مع اتهامات مستمرة بالاعتقالات التعسفية والاغتيالات السياسية. تُستخدم سياسات مثل برنامج “نحن روانديون” (Ndi Umunyarwanda) لتعزيز فكرة الوحدة الوطنية، لكنها تُخفي محاولات طمس التنوعات العرقية وتاريخ البلاد وتستخدم للتنكيل بكل صوت معارض للهيمنة الأجنبية على اثروات البلد.
ب- الدور الرواندي في الكونغو الديمقراطية
شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية دورات متكررة من العنف، ولا سيما الحركات المتمردة التي ابتليت بها شرق البلاد منذ تسعينيات القرن العشرين. وترجع هذه الأزمات إلى امتداد تاريخي للعنف ورثته البلاد عن الحقبة الاستعمارية البلجيكية، وما سبقها من نظام «دولة الكونغو الحرة» — الملكية الخاصة للملك البلجيكي ليوبولد الثاني — الذي تميَّز باستغلال المطاط والعاج. وكما لاحظ المفكر الماركسي الأمريكي مايكل بارنتي” لا توجد بلدان فقيرة بل بلدان تتعرض للاستغلال المفرط”
تزخر البلاد بموارد طبيعية هائلة، لا سيما الكولتان (حوالي 70% من احتياطيات العالم وفق تقديرات متداولة)، والكوْبالت والنحاس والذهب والليثيوم؛ ولا تزال هذه الموارد تتعرّض للنهب من قِبَل قوى أجنبية وشركات متعددة الجنسيات. منذ عام 2021 عادت ميليشيا تُعرف باسم «M23» — التي تأسست عام 2012 على يد عناصر سابقين من «المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب (CNDP) وبتغطية ودعم من النظام الرواندي — إلى حمل السلاح في شرق البلاد، وتسيطر الآن على عدة مناطق في إقليمي كيفو.
توفر رواندا دعماً عسكرياً ولوجستياً لميليشيا M23، مستخدمةً وجود ما يُشار إليه بـ«FLDR» (الذي تعتبره تهديداً) ذريعةً لذلك؛ ويُؤمِّن هذا الدعم لوصول متميّز إلى موارد المنطقة. وتفيد تقارير، من بينها تقارير منظمات رقابية، بأن نسبة كبيرة من صادرات رواندا من الكولتان والقصدير مصدرها تهريباً من داخل جمهورية الكونغو الديمقراطية.
العواقب الإنسانية لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الناجمة عن هذه الصراعات مدمرة: فقد لقي أكثر من ستة ملايين شخص حتفهم نتيجة النزاعات منذ عام 1998؛ وتشير دراسات إلى أن أكثر من مليون ونصف المليون امرأة تعرّضن للاغتصاب مرة واحدة على الأقل، وأن أكثر من سبعة ملايين شخص مشردون حالياً، فيما يواجه أكثر من سبعة وعشرين مليوناً حالة انعدام حاد للأمن الغذائي. كما اتهمت منظمة «هيومن رايتس ووتش» كلّاً من M23 ورواندا بعمليات التهجير القسري لسكان كونغوليين.
توجد حاليا مساعي لاحلال “السلام” بين البلدين بدأت بمحادثات في الدوحة حتى مؤخرا الاتفاق تكامل اقتصادي برعاية أمريكية
لكن هل سيكون هذا “السلام” سلاما عادل خاصة للشعب الكونغولي الذي يتعرض للاستغلال بشتى انواعه؟
الإجابة لا تستحق تحليل
5- المشترك بين السودان والكونغو
فضلا عن الازمات الإنسانية الحادة الموجودة
أمامنا في كل من جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان أزمات متشابهة من حيث الحروب والتهجير، حيث تتسم النزاعات فيها بطابع داخلي معقد يشمل جماعات مسلّحة محلية مدعومة أحيانًا من أطراف إقليمية، مما يجعل الصراع أكثر طولًا وتعقيدًا. كما أن الموارد الطبيعية، مثل الذهب والكوبالت في الكونغو والنفط والذهب في السودان، ساهمت في تمويل النزاعات وإطالة أمدها، مما يحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب. وقد أدت هذه الحروب إلى نزوح جماعي واسع، حيث تجاوز عدد النازحين ملايين الأشخاص في كلا البلدين، مع انهيار البنى التحتية وفقدان الدولة لهيبتها وقدرتها على حماية المدنيين. إضافة إلى ذلك، لعبت التدخلات الإقليمية والدولية دورًا في تعميق الصراع، إذ تحوّلت النزاعات المحلية إلى ساحات للتنافس الإقليمي. في النهاية، يمكن القول إن المشترك بين الأزمتين يتمثل في مزيج من استغلال الموارد الطبيعية والتهجير والتدخل الخارجي وهشاشة السلطة المركزية.
يعد كل من السودان والكونغو الديمقراطية ضحيتين لقوى الإمبريالية العالمية والفرعية على حد سواء.
خلاصة جزئية
استنادا إلى المعطيات الواردة في المقالة والإطار المفاهيمي لمصطلح ‘الامبريالية الفرعية’، يمكن الاستنتاج أن كلا من الإمارات العربية المتحدة ورواندا تمثلان نماذج للقوى الإمبريالية الفرعية، مستفيدتين من التفاعلات الإقليمية والدولية لتعزيز مصالحهما الاستراتيجية، بما في ذلك التدخل في الصراعات الإقليمية ودعم فواعل مسلحة محلية لتحقيق أهداف جيوسياسية واقتصادية
خلاصة
التضامن مع السودان والكونغو الديمقراطية، إلى جانب قضايا أخرى مثل القضية الفلسطينية والقضية الصحراوية، يعد أمرا بديهيا من منظور إنساني وأخلاقي. إلا أن فهم سياق هذه الأزمات، ودوافعها، وأسبابها، أمر ضروري لتحديد المسؤولين عن تفاقمها ومن هم المستفيدون الرئيسيون منها.
هذا التحليل يمكن أن يوجه التضامن بشكل واع، بحيث يرتكز على معرفة دقيقة بالسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي لهذه الصراعات.
المراجع و المصادر
https://fr.euronews.com/2025/11/04/soudan-la-milice-rsf-a-perpetre-un-nouveau-massacre-dans-le-camp-del-fasher
https://al24news.dz/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AF%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%86%D8%BA%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%88%D9%82%D8%B9%D8%A7%D9%86-%D8%A5/
https://kassioun.org/more-categories/art-and-culture/item/82579-2025-03-16-15-23-44
https://alsifr.org/sub-imperial-role-uae-africa
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A9_%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D9%81%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D9%85
https://viimes.org/wp-content/uploads/2023/04/29-03-Yemen-Project-Research.pdf
https://en.ypagency.net/270641?utm_source
https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%8A%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A3%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D9%86
https://www.almayadeen.net/articles/blog/1342777/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B9%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A-%D9%84%D9%80-%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%81%D8%B5%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9
https://www.mofa.gov.ae/en/missions/tel-aviv/media-hub/embassy-news/uae-announces-%2410-billion-fund-for-investments-in-israel?utm
https://www.swissinfo.ch/ara/various/%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%B3%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84-%D8%B5%D8%AF%D9%8A%D9%82-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%85%D8%B9-%D8%AA%D9%84-%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D8%A8%D8%9F/89425188
