افتتح الكاتب الغني عن التعريف فرانتس كافكا رائعته “المسخ”بهذه العبارة:
“عندما اكتشف غريغور سامسا أنه قد انسلخ عن آدميته وتحول إلى حشرة كان أول ما أقلقه أن يتأخر عن عمله”..!

لن يروق للبعض أنني أعتبر أن كافكا بهذه العبارة تفوّق على غرامشي في وصف الإنسان الذي يعيش في ظل النظام الرأسمالي الحقير!
حيث أراد كافكا بهذه العبارة وصف الإنسان الذي يعمل في زمن الرأسمالية لدى ثلّة من الانتهازيين، والذي لا تُقاس قيمته بإنسانيته بل بعدد الساعات التي يقضيها بالعمل مقابل الفتات.

هذا النظام الرأسمالي الذي هو أداة من أدوات الإمبريالية لم يضع نظامًا اقتصاديًا للقضاء على الفقر بل لتنظيمه بطريقة يستمر بها استعباد الشعوب..

لم ينشغل بطل قصتنا القصيرة هذه “غريغور سامسا” بتحوّل شكله إلى حشرة، كلّ الذي شغله تأخّره عن عمله في ظل هذا النظام الرأسمالي.

تُنهب الأوطان وتُحتل البلدان، والمواطن العربي مع هذه الرأسمالية لا يستطيع أن يرفع رأسه إذ أصبح عبدًا للحليب والخبز و”البامبرز”، غارقًا بقوت يومه، ولا يعيش يومه أصلًا بل يحاول أن ينجو منه فقط. هذا حال المواطن العربي إلا قلّة قليلة من الإقطاعيين مصّاصي دماء الشعوب.

لم تُوضع الرأسمالية الشيطانية للكسب الاقتصادي غير الشريف فقط بل لاحتلال الأوطان واحتلال المواطن من الداخل، وإنتاج إنسان ممسوخ فاقد لكينونته ومجرّد انعكاس لما تمليه عليه “ترندات” السوشال ميديا المملوءة بنظام التفاهة الذي هو أحد أدوات الإمبريالية يسير بخط متوازٍ مع الرأسمالية. فالرأسمالية ليست نظامًا اقتصاديًا فحسب بل هي تمسّ الوجدان وتحطم القيم تنسف الجوهر، فالقيم والكينونة قد ترأسمَلتا أيضًا. وما أعظم صديقنا الفيلسوف أنطونيو غرامشي عندما قال:

“أن تكون إنسانًا في زمن الرأسمالية، هذه غرامة ستكلفك الكثير والكثير في مجتمع الذئاب”، في عالم يستهلك أكثر مما يُفكّر، يصبح التمسك بالمبادئ عملًا مُكلفًا، ويُنظر إلى الصدق كحماقة، والنزاهة كعائق، والتواضع كضعف. كيف لا، وهم يمجّدون الخبث ويسمّونه ذكاءً، ويحتقرون الفقير حتى لو امتلك كنوز الحكمة؟ في هذا المجتمع، يخشى الإنسان الحقيقي قول الحق ورفع صوته، ليس خوفًا أو تحفّظًا، بل لأنه لا يريد أن يكون جزءًا من لعبة تقتل الإنسانية في سبيل الربح والقوة”.

لكن، هل يمكننا المقاومة؟
نعم يمكننا، رغم أن صديقنا بطل قصة المسخ “غريغور سامسا” لم يستطع دفع الغرامة التي ذكرناها نقلًا عن غرامشي أعلاه، ولم يأبه بكونه تحوّل إلى حشرة أكثر من خوفه الهستيري أن يخرج عن الخط الذي رُسم له في هذا النظام الرأسمالي الحقير، لكن كما يوجد حشرات يوجد صقور وأبطال ونخب واعية ومثقفون عضويون لا يقبلون الخضوع لما رُسم لأوطاننا من شياطين الرأسمالية الإمبريالية، ولا يكلّون ولا يملّون من المقاومة والرفض، وستكون كلمة الحسم لهم. الشعوب فطرتها مقاومة، لكن دور المثقف العضوي إخراج هذه الفطرة في سياقها السليم، وخاصة في الزمن الذي نجح فيه شياطين الرأسمالية الإمبريالية في حرف بوصلة شعوبنا وجعلها حطبًا للاقتتال الطائفي وعبيدًا للدولار.

جاء في أحد كتابات الرفيق القائد الروائي الشهيد غسان كنفاني:
“الغزلان تحب أن تموت عند أهلها.. الصقور لا يهمها أين تموت!”، ولهذا السبب خاف أن يتأخر “غريغور سامسا” عن عمله لأنه لم يكن صقرًا، لكن لم يفت الأوان فالفرصة أمامه لكي يصبح.

أبو الأمير – القدس