لم تكن المفاوضات التي جرت بين حماس والكيان على مدى سنتين أول المفاوضات، ولن تكون آخر المفاوضات إلى أن يتحقق النصر النهائي؛ فقد شهدت الخمسون سنة الماضية ثلاث جولات مفصلية كانت ذات تأثير كبير على القضية المركزية وتطوراتها، مما يستوجب إجراء مقارنة بسيطة بينهم وبيان معيار النجاح والفشل في كلٍ منها.

أثار قبول حماس المشروط لخطة ترامب، والرد المسؤول الذي قدمته، الذاكرة وأعادها إلى حقبة المفاوضات العربية “الإسرائيلية” في التسعينات من القرن الماضي وما أدى إليه من توقيع اتفاقية العار في أوسلو، والذي كان في حقيقة الأمر امتداداً لما بدأ في حرب تشرين المجيدة عام 1973 إلى الوصول إلى حرب الخليج الثانية التي أفرزت اتجاهاً لدى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش الأب يقضي بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي حيث اعتقد لوهلة أن جميع من شارك في تلك الحرب من دول عربية، ومن حماهم مثل “إسرائيل”، يأتمرون بأمره وأنه آن الأوان للمضي قدماً في إنهاء الصراع، فتمت الدعوة إلى مؤتمر مدريد للسلام الذي شارك به مندوبون عن الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان، وهي الدول التي لها علاقة مباشرة بالنزاع، وانبثق عن هذا المؤتمر وفود منفصلة من كل دولة بعد أن تراجعت هذه الدول عن رغبتها السابقة بالتفاوض بواسطة وفد مشترك لرفض “إسرائيل” لأي محاولة للتفاوض مع وفد مشترك، وكان لها ذلك مع اتفاق الوفود العربية على “وحدة المسار” والتشاور في ما تتوصل إليه عبر المفاوضات، أي أن الكيان قد حقق أول نجاحاته بتفتيت الصف قبل أن تبدأ المفاوضات المأمولة.

فعلياً لم يبدأ تفتيت الصف العربي في ذلك التاريخ حيث كان الرئيس أنور السادات أول من خرج على الصف العربي بقبوله وقف إطلاق النار عام 1973 وترك سوريا وحدها في الميدان بعد أن كان قد اتفق معها على القتال حتى تحقيق أهداف الحرب، إلى أن وصل إلى اتفاقية التسليم والخنوع المسماة “اتفاقية كامب ديفيد” التي تنازلت فيها مصر عن قطاع غزة الذي كان يشكل قطعة منها وحولت سيناء إلى منطقة منزوعة السلاح وحولت جيش الكنانة من جيش مقاتل إلى جيش مكاتب ومشاريع وغذت الكيان بمساعدات عسكرية بقيمة ثلاثة مليارات دولار سنوياً، وبالنتيجة فقد كانت الاتفاقية فاشلة بكل معنى الكلمة.

في الجانب الثاني جرت مفاوضات أخرى خلال نفس الفترة وبعدها مع منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بزعيمها ياسر عرفات بمسار منفرد غير معلن بدأ مع بيان النقاط العشرة عام 1974 الذي تم التنازل من خلاله عن الثوابت الوطنية الأساسية والقبول بالتسويات المرحلية تحت سياسة “اللعم”، وهي خليط من كلمة “لا” وكلمة “نعم” أطلقت على ياسر عرفات في تلك الحقبة، واستمرت هذه السياسة لمؤتمر مدريد فبينما كان الوفد الفلسطيني المكون من الدكتور حيدر عبد الشافي والدكتورة حنان عشراوي منخرطين في المفاوضات أوفد ياسر عرفات صنيعته محمود عباس إلى أوسلو ليتفاوض بشكل موازٍ مع وفد منفصل ولينتهي إلى إعلان اتفاق “أوسلو” المشؤوم، وبهذا ارتكب مجموعة من الخطايا التي لا تغتفر؛ خرج على الصف العربي وما اتفق عليه من وحدة المسار، خرج على الصف الفلسطيني وتجاوز كافة الفصائل الفلسطينية، خرج على مبادئ منظمة التحرير ومنظمة فتح اللتين يرأسهما، خرج على التمثيل الذي منحه للوفد المفاوض في مدريد، وبالنتيجة خرج على نفسه ومنح “إسرائيل” إكسير الحياة والفرصة للبقاء لمدة أطول، وقبل أن يلاحظ أحد ما حصل ويستوعب الصدمة كان الأردن قد تبع الخطى ووقع اتفاقية وادي عربة وتركوا سوريا وحيدة في الميدان ثابتة على المبدأ؛ فلم تعد “إسرائيل” تهتم للوصول إلى اتفاق معها بعد تطويع لب القضية الفلسطينية وهي منظمة التحرير التي اعترفت بالكيان، ومن ثم إنشاء “السلطة الفلسطينية” التي تحولت مع الزمن إلى صبي خادم للاحتلال، أي أن خروج السادات عن الصف العربي لا يقارن بخروج عرفات عن كل شيء لا سيما وأنه لم يكن تحت أي ضغوط شعبية أو دولية للقبول بهكذا اتفاق مقارنة بالضغوط التي جرت على حماس وأهل غزة بشكل غير قابل للقياس بأي معايير، وبالنتيجة فقد كانت الاتفاقية فاشلة بكل معنى الكلمة أيضاً.

مقابل ذلك نشاهد مفاوضات حماس غير المباشرة مع الكيان وقتالها المستمر على مدى سنتين إلى أن كان ردها الذكي على خطة ترامب وتضمن ردها شروطها السابقة بكلمات مختلفة ولم يكن في الرد أي تراجع أو تنازل ولم تُجدِ تهديدات ترامب الجوفاء معها، بحيث:
• قالت أن المفاوضات ستكون غير مباشرة ولم تتراجع، (عبر الوسطاء).
• قالت إنها تطالب بوقف الحرب على قطاع غزة وتبادل الأسرى ودخول المساعدات والانسحاب الكامل من القطاع ولم تتراجع حتى لو كان على مراحل.

• قالت إن أسرى العدو لن يعودوا إذا لم يعد أسرى المقاومة ولم تتراجع.

• قالت إنها ستطلق سراح الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال وفعلت.

• وافقت على الإفراج عن جميع أسرى الاحتلال أحياء وجثامين مع توفير الظروف الميدانية لعملية التبادل ولم تتراجع حتى لو كان ذلك على مراحل.
• أكدت على رفض احتلال القطاع ورفض تهجير شعبنا الفلسطيني منه ولم تتراجع.

• وافقت على تسليم إدارة قطاع غزة لهيئة فلسطينية من المستقلين التكنوقراط (دعت إلى ذلك مراراً) بناءً على التوافق الوطني الفلسطيني (أي بمشاركة حماس) ولم تتراجع.

• أكدت على أن مستقبل قطاع غزة وحقوق الشعب الفلسطيني الأصيلة مرتبط بموقف وطني جامع ولم تنفرد بالقرار ولم تتراجع عن وحدة الصف الفلسطيني.

• أكدت إن ما يتفق عليه سيكون استناداً إلى القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، ويتم مناقشته من خلال إطار وطني فلسطيني جامع ستكون حماس من ضمنه، أي أصرت على بقائها كعنصر فعال في القضية ولم تتراجع.

• قالت إن العدو الصهيوني لن يستطيع نزع حماس ولم تتراجع وأفشلت مخططات العدو.

• قالت إن قادتها وأعضائها لن يخرجوا من غزة ولم تتراجع، لم تهن حماس ولم تضعف ولم تتنازل عن طلباتها رغم الضغوط الهائلة التي لا يتحملها بشر، لم تتفرد بالقرار وحافظت على التشاور المستمر مع الفصائل الفلسطينية مع أن حماس هي الآمر الناهي في قطاع غزة وكانت تستطيع عمل ما تراه مناسباً لو أرادت وسيقدم الكثيرون غيرها الأسباب والأعذار لصحة أي قرار تتخذه، ولكنها ثبتت رغم الألم والجراح إلى أن كان ردها الذكي على خطة ترامب؛ كانت تستطيع التنازل ولكنها لم تسمح للعدو بكسر حلقة الصمود والتضامن، كانت تستطيع تحقيق مكاسب سياسية كبيرة ولكنها لم تقبل أن تفاوض على المبادئ، فأثبتت حماس أنها صاحبة مبدأ وأن القوة الغاشمة محدودة مهما عظمت وأن الصمود ليس له حدود، وفوق ذلك كله أن مبدأها الأول والآخير هو الوطن والتحرير فأجرت مفاوضات ناجحة لم تتنازل فيها عن المبادئ والثوابت الوطنية ورغم التضحيات الكبيرة والكثيرة جداً فقد حققت مفاوضاتها نجاحاً باهراً، بالإضافة إلى أنها حققت نجاحاً منقطع النظير في كشف زيف الرواية “الإسرائيلية” وتحويل الرأي العام لصالح القضية فأثمرت دماء الشهداء ومعاناة الأهل.

شتان ما بين المبادئ والفهلوة، شتان ما بين الوضوح والغموض، شتان ما بين النعم واللعم، وشتان ما بين الثرى والثريا، لا يسامح التاريخ من يقف ضد ويتصرف بعكس المبادئ التي كان ينادي بها والتي كانت تعتبر خطاً أحمر للفرد أو المجموعة أو المنظمة أو الدولة برغم أن التاريخ مليء بمن قام بذلك ووقف ضد مبادئه وحولها إلى مجرد كتابات وورق ووصف المبادئ بأنها كانت ضرورة ولكن عفا عليها الزمن، وغير ذلك الكثير من الأعذار المريضة ووشحها بالكثير من مفردات فلسفة الهزيمة، ليبرّر الإنهزام والتراجع، كما لا ينسى التاريخ من يذود عن مبادئه ويفديها بحياته ويدفع ثمنها جوعاً وعطشاً وتشرد وفقدان للأهل والأحبة.

قد تكون السياسة بدون أخلاق ولكن أن تصبح مصائر الشعوب خاضعة للسياسة فهذه هي الطامة الكبرى؛ كان الدافع الرئيسي لعرفات عندما وصل إلى اتفاق “أوسلو” أن يصبح رئيس دولة فألقى السلاح الوحيد الذي يملكه وهو الاعتراف بالدولة اللقيطة مقابل ثلاثون من الفضة فشارك يهوذا الإسخريوطي جريمة قتل السيد المسيح (ع) وأصاب فلسطين بجراح ثخينة على نفس الأرض التي ضمت النبي الكريم وبعد ألفي عام، بينما كان دافع حماس هو تحرير الأرض والإنسان وبذل الدماء في سبيل ذلك ولا يمكن أن يستوي من يبذل الدماء مع من يبذل الكرسي.

نرفع القبعة لحماس ونفديها بدمنا وروحنا ولا رحمة للمتخاذلين والجبناء
زياد زكريا/عضو منتدى سيف القدس