المقاومة كوعي تاريخي وانتصار إنساني
لا يُفهم التاريخ كتعاقبٍ للأحداث، بل كصيرورةٍ جدلية يتحرك فيها الإنسان بين الوعي المغترب والوعي الفاعل. فالاغتراب، في هذا المنظور، ليس عارضًا نفسيًا، بل هو بنيةٌ مادية وفكرية تنتجها أنظمة الاستغلال حين تفصل الإنسان عن فعله، وتجعله متفرجًا على تاريخه.
والتحرر ليس لحظة انفجار عاطفية، بل هو الوعي بالذات كقوةٍ قادرةٍ على إنتاج واقعها. في هذا الوعي تكمن الثورة، وفي غيابه يتجذر الاستلاب.
من هنا، فإن الصراع بين الجماهير والقوى الإمبريالية هو صراع بين وعيين:
وعيٌ إمبرياليٌّ يريد تثبيت التاريخ داخل منطق السيطرة، ووعيٌ جماهيريٌّ يريد كسر هذا الثبات وإعادة التاريخ إلى مجراه الطبيعي ،أي إلى حركة الإنسان نحو التحرر.
وبين هذين الوعيَين تولد المقاومة.
ليست ردًّا ظرفيًا، بل ضرورة تاريخية نابعة من قانون التناقض بين المستغِلّ والمستغَلّ، بين مَن يملك أدوات السيطرة ومَن يملك حق الوجود.
الجماهير ليست مجموعًا بشريًا خاضعًا للانفعال، بل حامل الوعي التاريخي. في لحظة إدراكها لذاتها كقوةٍ فاعلة، تتحول من جمهورٍ إلى جماهير، ومن ضحيةٍ إلى صانعةٍ للتاريخ.
لكن هذا التحول لا يتم دفعةً واحدة، بل عبر سلسلة من التناقضات الداخلية.
بين الخوف والأمل، بين الحاجة والطموح، بين الذلّ والغضب. وحين تتكثف هذه التناقضات إلى حدّ الانفجار، تولد المقاومة كفعلٍ واعٍ يُحوّل السخط إلى مشروع تحرر.
هكذا تتحول الجماهير من كائنٍ اجتماعيٍّ إلى كائنٍ تاريخيٍّ، وتصبح مقاومتها أرقى أشكال وعيها بذاتها.
فالثورة ليست انفعالًا بل وعيٌ بالتاريخ من موقع الفعل، لا من موقع المتفرّج عليه.
الإمبريالية الحديثة ليست فقط علاقة نهبٍ اقتصادي أو غزوٍ عسكري، بل هي نظامٌ شامل لإنتاج الاغتراب. إنها تسعى إلى تفكيك المجتمعات من الداخل، لتبقى عاجزة عن إنتاج استقلالها.
من خلال الاقتصاد الريعي، والمؤسسات المالية العالمية، والمنظمات غير الحكومية، وأجهزة الإعلام والثقافة الاستهلاكية، تُعاد صياغة وعي الشعوب بما يتوافق مع مصالح المركز الرأسمالي.
الكيان الصهيوني المؤقت هو التجسيد الأوضح لهذه المنظومة. إنه ليس كيانًا سياسيًا فحسب، بل وظيفة إمبريالية متقدمة، تضمن استمرار تفكك الجسد العربي واحتجاز تطوره التاريخي. إنه معمل عسكري وأمني وثقافيّ لإعادة إنتاج التبعية، وتثبيت الهزيمة في الوعي الجمعي.
المقاومة ليست فقط إطلاق النار، بل إطلاق الوعي. إنها النقطة التي يتحول فيها الوجود من انتظارٍ سلبي إلى فعلٍ تاريخيٍّ مؤسس.
إنّ المقاوم حين يقاتل، لا يواجه جنديًّا أو دبابةً فقط، بل يواجه بنية الاغتراب بكامل ثقلها. إنه يقاتل من أجل استعادة ذاته، من أجل أن يعيد تعريف إنسانيته.
المقاومة بهذا المعنى ليست خيارًا سياسيًا، بل هي ضرورة وجودية. وكل محاولة لاحتوائها ضمن منطق “التسويات” أو “العقلنة الواقعية” ليست سوى شكلٍ جديدٍ من أشكال الاغتراب، لأنّها تفصل الفعل عن المعنى.
فالمقاومة تفقد معناها حين تتحول إلى تفاوضٍ على شروط العبودية، وتكتسب معناها حين تكون طريقًا لتحرير الإنسان والمجتمع.
ليس النصر في المنظور الثوري موازين قوى مادية، بل موازين وعي.
حين ينهض الشعب من تحت القصف وهو أكثر إصرارًا على المقاومة، يكون قد حسم المعركة في مستواها الأعمق.
التاريخ يعلمنا أن الإمبريالية قد تنتصر في الميدان، لكنها تنهزم حين تعجز عن فرض سرديتها.
فكلما سقط شهيد، وولد وعيٌ جديدٌ يرفض الخضوع، تتحول الخسارة المادية إلى مكسبٍ تاريخيٍّ طويل الأمد.
التضحيات تصبح انتصارًا حين تتحول من دماءٍ إلى ذاكرة، ومن ألمٍ إلى وعي، ومن رمادٍ إلى مشروع.
حين تبقى الجماهير متمسكة بحقها في المستقبل، حتى لو فقدت الحاضر، تكون قد تجاوزت مفهوم الهزيمة، وبدأت كتابة تاريخ جديد.
الكيان الصهيوني المؤقت هو المرآة التي تعكس أزمة الإمبريالية في أعلى تجلياتها.
فهو كيان يعيش على الخوف، ويعيد إنتاج الحرب كي يبرّر وجوده.
إنّ صلابته العسكرية تخفي هشاشته التاريخية، إذ لا يقوم على هوية متجذّرة ولا على شرعية إنسانية، بل على العنف وحده.
ولذلك، فكل مقاومةٍ عربيةٍ لا تهدده فقط في وجوده الجغرافي، بل في مبرر وجوده الفكري ،أي في سرديته الكولونيالية التي تشرعن بقاءه كـ”قلعة الحضارة” في مواجهة “الهمجية الشرقية”.
لكن هذه السردية تتهاوى كلّما صمدت غزة، أو ارتفعت رايات المقاومة في لبنان واليمن والعراق. فالإمبريالية، التي أنشأت الكيان لتؤبّد السيطرة، تجد نفسها أمام كيانٍ أصبح عبئًا تاريخيًا عليها، يحتاج إلى حمايتها كي يستمر.
وهكذا تتحول المقاومة إلى فعلٍ لا يُضعف الكيان فقط، بل يعرّي الإمبريالية ذاتها من أسطورتها.
منهج التحليل الجدلي يعلّمنا أن النصر والهزيمة ليسا لحظتين منفصلتين، بل محطتان في صيرورة واحدة.
فالهزيمة التي تُنتج وعيًا نقديًا هي بداية النصر، والنصر الذي يولّد الغرور والانغلاق هو بداية الهزيمة.
ولذلك، فإنّ ما يميّز المقاومة الثورية عن غيرها هو قدرتها على تحويل الهزائم التكتيكية إلى تراكمٍ استراتيجي في الوعي، وعلى قراءة التاريخ كعملية مستمرة من النفي والنفي المضاد.
المعركة ضد الكيان الصهيوني ليست حدثًا، بل مسارًا.
وحين تتحول التضحيات إلى طاقةٍ أخلاقيةٍ ومعنويةٍ تُعيد إنتاج الإرادة الجماعية، فإننا نكون أمام ما أسماه ياسين الحافظ بـ”التحوّل من التاريخ المؤجَّل إلى التاريخ الفعلي” أي انتقال الأمة من موقع التلقي إلى موقع الفعل.
المقاومة هي فعل الخلق الجديد. فهي لا تحرر الأرض فقط، بل تحرر الإنسان من اغترابه.
إنّ القوى الإمبريالية تسعى إلى نزع التاريخ من الشعوب، والمقاومة تُعيده إليها.
كل خندقٍ يُحفر، كل طفلٍ يرفع حجرًا، كل أمٍّ تودّع شهيدًا وتقول “على دربه”، هو فعلٌ من أفعال استعادة الإنسان لذاته.
حتى لو كانت نسبة الدمار عندنا أعلى، فإننا نربح في ميدان الوعي. نربح لأننا نؤكد أن الإنسان العربي لا يُمحى، وأن التاريخ المؤجَّل يعود إلى نبضه من جديد.
وحين يتحول الألم إلى وعي، تتحول المقاومة إلى خلقٍ جديدٍ للذات التاريخية.
ذلك هو المعنى الأعمق للنصر. أن تبقى الأمة قادرة على الفعل، وأن تواصل قولها للتاريخ رغم أنف الإمبريالية.
ففي النهاية، لا يُهزم شعبٌ يعرف أن دماءه تبني معنى وجوده، ولا تنتصر إمبريالية مهما بلغت قوتها على وعيٍ قرر أن يصنع تاريخه بيديه.
بقلم الرفيق عبدالله عبدالله