مهاب السنونسي يجسد الضمير التونسي الحي
في مطلع أكتوبر 2025، بلغ أسطول الصمود العالمي مياهاً دولية قريبة من غزة، في واحدة من أوسع المبادرات المدنية التي عرفتها السنوات الأخيرة لمواجهة الحصار المفروض على القطاع منذ ما يقارب ثمانية عشر عاماً. هذا الأسطول، الذي ضم 497 مشارك من 44 دولة، لم يكن مجرد رحلة بحرية لنقل المعونات، بل فعل احتجاج جماعي، عابر للحدود، يسعى إلى كسر صمت العالم أمام واقع إنساني مأساوي.
منذ بدايته، أعلن المنظمون أن أهداف الأسطول متعددة: إيصال مساعدات عاجلة من غذاء وأدوية وحليب أطفال، فضح الطابع غير القانوني للحصار البحري، وإعادة النقاش الدولي حول حق الفلسطينيين في الحرية والحياة الكريمة. وقد انطلقت القوافل من موانئ عدة، من جنوة وبرشلونة إلى تونس، حيث توافد عشرات المتطوعين محمّلين بما جمعوه من دعم شعبي.
لكن خلف الأرقام والتفاصيل التنظيمية، حملت هذه الرحلة شحنة رمزية أعمق. فقد التقت على متن السفن وجوه مختلفة: ناشطون حقوقيون، نقابيون، فنانون، صحفيون، وبرلمانيون. هذا التنوع منح الأسطول بعداً إنسانياً جامعاً، بعيداً عن الحسابات الرسمية والاصطفافات الدبلوماسية.
تحديات في الطريق
واجه الأسطول عراقيل متكررة. فقد أبلغ مشاركون عن ملاحقة بطائرات مسيّرة مجهولة، كما تعرضت إحدى السفن الإسبانية لهجوم بمادة حارقة يشتبه في أن مصدرها “إسرائيلي” و اتضح انه هجوم عسكريا مباشرة بأوامر نتياهو نفسه “نتنياهو أقر هجوما عسكريا على سفن لأسطول الصمود قبالة تونس-الجزيرة” ومع ذلك واصل الأسطول تقدمه، مدفوعاً بما وصفه المنظمون بـ”المسؤولية الأخلاقية تجاه غزة”. ومع اقتراب السفن من وجهتها، لم يكن خافياً أن لحظة المواجهة مع البحرية الصهيونية قادمة لا محالة.
في بداية أكتوبر، تمت السيطرة على السفن واحدة تلو الأخرى. اقتيد المئات من المشاركين إلى ميناء “أسدود”، حيث وُضعوا تحت التحقيق بانتظار ترحيلهم. ورغم محاولات التضييق، بقيت صور المتضامنين وهم يرفعون شعارات الحرية على سطح السفن أيقونة متداولة حول العالم.
مهاب السنوسي: لحظة تجسد الضمير التونسي
في خضم هذا المشهد الدولي، برز اسم التونسي مهاب السنوسي. كان أحد المشاركين الشباب الذين اختاروا الانخراط في هذه المغامرة الإنسانية. وعندما وصلت سفن الأسطول إلى الميناء، أخفى بين ثيابه علماً فلسطينياً، ليخرجه فجأة ويرفعه عالياً في مواجهة عناصر شرطة الاحتلال.
المشهد كان قصيراً لكنه محمّل بالمعاني: علم فلسطين في يد شاب تونسي، يرفرف في لحظة تحدٍّ، ثم انقضاض عنيف من قوات الاحتلال عليه. اعتُدي على السنوسي بالضرب، ونُقل مقيّداً، لكن الرواية لم تتوقف عند هذا الحد. فبحسب ما نقله فريق الدفاع، كان معنوياته مرتفعة جداً، وقد وجّه تحياته للشعب التونسي وكل الشعوب الحرّة، داعياً إلى مواصلة الضغط من أجل إطلاق سراح جميع المشاركين.
هذه اللحظة مثّلت ما يمكن تسميته “الضمير التونسي” في أنقى تجلياته. فالمشاركة التونسية لم تكن رمزية فقط بوجود سفن انطلقت من موانئ البلاد، بل صارت مجسدة في فعل فردي يلخّص تاريخاً طويلاً من انحياز الشارع التونسي للقضية الفلسطينية. رفع العلم لم يكن مجرد تحدٍّ، بل استدعاء لذاكرة شعبية مترسخة، ترى في فلسطين قضية تشملنا جميعا بدون استثناء
تونس وفلسطين: التقاء وجدانين
على مدى عقود، شكّل التضامن مع فلسطين جزءاً من الخطاب الشعبي التونسي. من النقابات الطلابية إلى المسيرات الجماهيرية، ظل حضور فلسطين ثابتاً في وجدان التونسيين. وما فعله مهاب السنوسي يعيد تذكير العالم بأن هذه العلاقة ليست شعاراً مناسباتياً، بل ممارسة حيّة. و من ينسى قصيدة “كيف نشفى من حب تونس” أو عدوان أكتوبر 1985 أو استقبال تونس للفلسطنيين سنة 1982
في أسطول حمل مشاركين من أربع قارات، كان فعل السنوسي و غيرهم من المشاركين بمثابة بوصلة تُشير إلى أن الضمير الإنساني ما زال يجد أصواتاً تعبّر عنه بوضوح. إن اعتداء الاحتلال عليه لم يكن مجرد حادث عابر، بل مشهداً يلخص طبيعة الصراع: عنف في مواجهة رموز الحرية، وتضامن لا يُكسر رغم القمع.
ما بعد الأسطول
رغم السيطرة على السفن ومنعها من الوصول إلى غزة، يمكن القول إن أسطول الصمود العالمي حقق جزءاً من أهدافه. فقد أعاد طرح قضية الحصار في الإعلام الدولي، ووحّد أصواتاً من مشارب متعددة تحت عنوان واحد: رفض تجويع شعب ومعاقبته جماعياً. والأهم أنه أثبت أن المجتمع المدني العالمي قادر على ابتكار أدوات ضغط مختلفة عن لغة الحكومات والصفقات السياسية.
أما بالنسبة إلى تونس، فإن قصة مهاب السنوسي لن تُقرأ فقط كجزء من تفاصيل الأسطول، بل كحلقة جديدة في سجل طويل من المواقف الشعبية المؤيدة لفلسطين. إن رفع العلم الفلسطيني في ميناء أسدود تحت قبضة الاحتلال هو فعل صغير في حجمه، لكنه كبير في رمزيته، يختصر هوية تونسية متجذرة في الانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني بل يمثل ضمير كل مؤيد للقضية بغض النظر عن اصوله
خاتمة

أسطول الصمود العالمي قد يُذكر في المستقبل كأكبر مبادرة مدنية دولية لكسر الحصار على غزة. لكن في الذاكرة التونسية، سيبقى مرتبطاً باسم مهاب السنوسي، الشاب الذي اختار أن يرفع علماً يرمز إلى حرية شعب محاصر، فدفع ثمن ذلك اعتداءً جسدياً، لكنه خرج أقوى بمعنوياته ورسائله. وباسم المناضل وائل نوار الذي واجه البحرية “الإسرائيلية” عبر اللاسلكي معلنًا موقفه بكل شجاعة قبيل اقتحام السفن، وباسم صورة الممثل محمد مراد التي نشرتها صفحات وزارة الخارجية الصهيونية و”إسرائيل بالعربية” لتُظهر ثباته وعلو معنوياته، وباسم لؤي الشارني وغسان كلاعي وغيرهم من الأحرار من بلاد قرطاج
بهذا المعنى، تحوّل الأسطول من مجرد رحلة بحرية إلى اختبار لضمير العالم، ومن مجرد مبادرة إنسانية إلى حدث يرسخ فكرة أن الشعوب، ومنها الشعب التونسي، قادرة على أن تكون شاهدة وفاعلة في وجه الظلم، حتى ولو كان الخصم من أعتى قوى الاحتلال.

بقلم الرفيق نذير محمد-تونس