فاتحة

منذ عامين، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يتعرض قطاع غزة، إحدى أفقر مناطق العالم، المحاصرة بشراسة غير مسبوقة منذ أكثر من عشرين عاماً، لحروب إبادة صهيونية همجية غير مسبوقة في عنفها ودمويتها وشموليتها وآليات تنفيذها، تشارك فيها، عسكرياً وأمنياً وسياسياً ومالياً وإعلامياً، أغنى وأقوى دول العالم، على رأسها الولايات المتحدة وكندا وغالبية الدول الأوروبية، وحتى بعض الحكومات العربية والإسلامية.

ففي السنة الأولى فقط، (من تشرين الأول/ أكتوبر 2023- أيلول/سبتمبر 2024)، ساهمت الولايات المتحدة، كندا، وأوروبا في تمويل أكثر من 80% من تكاليف حرب الإبادة، هذا عدا التكاليف الإضافية التي دفعتها بفعل مشاركتها الفعلية عسكرياً ولوجستياً وسياسياً وإعلامياً، وتكاليف تنفيذها عمليات عسكرية ذات صلة بحرب الإبادة في مناطق متعددة من الإقليم.

ومنذ أواخر عام 2023، يتعرّض جنوب لبنان، والبقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت، أيضاً لحروب إبادة مماثلة، تسعى إلى تدمير البنى التحتية التي تجعل من الحياة ممكنة، وتهجير أهلنا منها قسراً، بهدف تفريغ المنطقة من الحاضنة الاجتماعية للمقاومة، ضمن عمليات متكاملة تنخرط فيها مع الكيان الصهيوني القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وحتى تجد لها أصداءً من التواطؤ الرسمي المحلي والعربي.

وفيما تدخل حروب الإبادة الهمجية على غزة عامها الثالث، أصبح واضحاً أنه لا يمكن فصلها عن مشروع إمبريالي أميركي-أوروبي أوسع، يتجاوز حدود فلسطين ليطاول الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية برمّتها، وحتى الجنوب العالمي كله. وأصبح واضحاً خلال العامين الأخيرين، أكثر من أي وقت مضى، أن الكيان الصهيوني أداة تنفيذية أساسية لهذا المشروع، تقوم بـ«العمل القذر» نيابة عنه.

فما يجري في غزة، وفلسطين، ولبنان واليمن راهناً، لا يمكن اختزاله في كونه مجرّد مأساة إنسانية مروّعة، برغم بشاعتها، أو حتى مجرد انتهاك جسيم للقانون الدولي، وإن كان أيضاً كذلك كما توثّق المؤسسات الحقوقية والمحاكم الدولية. وما يجري في فلسطين لا يمكن توصيفه حتى كمجرد حرب إبادة أخرى كالتي عرفتها الإنسانية في أحلك لحظات تاريخها الحديث. بل إن ما يجري هو حرب إبادة من نوع جديد، تُشَكِّل تحوّلاً نموذجياً، يميّزها عن كل تجارب وحالات الإبادة السابقة.

فلم يسبق في كل التاريخ الحديث أن شهد العالم، وعلى مرأى ومسمع مليارات البشر، جريمة إبادة جماعية واسعة النطاق تُنفّذ في الزمن الفعلي، وعلى مدار عامين متتاليين، وتُنقل إلى العالم بالبث الحي والمباشر، كما يحصل في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

ما يجري في فلسطين هو تجسيد فعلي لحروب إبادة ممنهجة ترتكبها قوة استعمارية استيطانية، في سياق مشروع توسعي يستند إلى عقيدة إبادية، وبتمكين وإسناد ومشاركة وتمويل غير مسبوق من البنى السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية والأيديولوجية لمنظومة الهيمنة الإمبريالية الغربية. في الحقيقة، لا يمكن إدراك حقيقة حروب الإبادة على غزة (وفلسطين) ولبنان منذ البداية، ولكن تحديداً العدوان الراهن، بمعزل عن الاستراتيجيات الإمبريالية الغربية، وبمعزل عن حقيقة وطبيعة منظومة الهيمنة الكونية التي تشنّ حروباً عدوانية وإبادة وتجويعاً على كل شعوب الجنوب العالمي، حتى وإن كان تركيز العنف الغربي الهمجي في العقود الأخيرة على المنطقة العربية أساساً، وفلسطين خصوصاً.

والفهم الشامل لحروب الإبادة والتطهير العرقي في فلسطين (غزة والضفة والأراضي المحتلة عام 1948)، وأيضاً في لبنان، والعدوان المستمر على اليمن وباقي دول المنطقة، يبقى ناقصاً بالاستناد إلى التوثيق، والبيانات، والتصريحات التي تشير إلى نية الإبادة فقط، وحتى في اعتماد التعريف القانوني، حتى وإن كانت ضرورية. المعرفة بالإبادة تبقى ناقصة إن لم تصبح جزءاً من رؤية تحررية شاملة تؤسّس وتقود إلى الفعل المقاوم.

فليس المطلوب فقط تسمية الجريمة بوصفها «إبادة جماعية»، بل تحويل هذا التشخيص إلى منطلق لبرنامج كفاحي شامل ومنظّم يرفض أن تتحول الشعوب العربية، وفي مقدّمتها الشعبان الفلسطيني واللبناني، إلى مجرد مادة أرشيفية لبحوث مستقبلية عن الإبادة، كما حدث مع شعوب أخرى تمّ القضاء عليها تحت أنقاض الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية.

إن الإسناد والدعم الأميركيَّيْن – الأوروبيَّيْن الشامليْن لمشروع الإبادة الصهيوني الغربي في فلسطين والمنطقة لا يُعَبِّران فقط عن مجرد انحيازات ظرفية. فحروب الإبادة التي نراها في فلسطين ولبنان مدفوعة بأسباب استراتيجية وخطط إمبريالية – صهيونية كبرى، وهي تجسيد صارخ لطبيعة وحقيقة المشروع الإمبريالي-الصهيوني، الذي يستند إلى استراتيجيات طويلة المدى لإعادة تشكيل الخرائط السياسية والديموغرافية للمنطقة وفق متطلبات منطق الهيمنة والإبادة، وهي أيضاً جزء من حالة إقليمية وحتى عالمية يتضح فيها أن العلاقات الرأسمالية في عصر الإمبريالية هي في الجوهر علاقات قتل وإبادة.

فبنية الرأسمالية الإمبريالية الحديثة وتراكم رأس المال، يرتبطان بنيوياً بمنظومات العنف والقتل والتجويع والإبادات التي تملأ العالم، ولا علاقة لما يحدث بتهديدات مُفبركة وتوصيفات كاذبة يُروّج لها شركاء الكيان في الإبادة من الحكومات إلى الإعلام في سرديتهم التضليلية. فالإعلام الغربي، خلال السنوات الأخيرة، أثبت أنه ليس فقط لا يمثّل سلطة رقابية أو أخلاقية، كما يدّعي، بل إنه إحدى الأدوات التنفيذية الأساسية البشعة للإبادة وللمشروع الإمبريالي، تعيد إنتاج أبشع السرديات الكولونيالية وأكثرها عنصرية واستشراقاً، وتوفّر الغطاء «الأخلاقي» والسياسي لحروب الإبادة المدمّرة، مع تعتيمٍ ممنهج على الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في الجنوب العالمي، وتحديداً في فلسطين ولبنان واليمن، وإسكات ممنهج ومقصود لأصوات الضحايا. فالكيان الصهيوني وحلفاؤه الغربيون لم يتردّدوا، حتى قبل حروب الإبادة الراهنة على شعوبنا في المنطقة، في الترويج بوقاحة لخطط إعادة رسم وتشكيل الإقليم وخرائطه.

فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديداً مع نكبة فلسطين 1948، تحوّل الوطن العربي إلى ساحات حروب دائمة، وتحوّلت الكثير من مدنه وحتى بعض دوله إلى مقابر جماعية كبرى لضحايا العنف الإمبريالي الغربي والصهيوني، خصوصاً في العقود القليلة الماضية. فلقد تجاوز عدد ضحايا الحصار والحروب الأميركية-الغربية الهمجية المتتالية وتبعاتها على العراق بين عامي 1991و2006 فقط أكثر من ثلاثة ملايين شهيد، بالإضافة إلى تدمير الدولة العراقية وتقويض نسيجها المجتمعي، فيما دمّرت الحروب الإمبريالية الدولة الليبية كلياً وحوّلتها إلى دولة فاشلة في حالة حروب مستمرة، وأغرقت سوريا في أتون حروب كارثية دمّرت بناها التحتية وأعادت مجتمعها عقوداً إلى الوراء مترافقاً مع انخفاض حادّ في متوسط العمر وفقدان جيل كامل من الشباب، ما أسّس لغياب أي أفق بإمكانية الاستقرار في المستقبل.

أمّا اليمن، أفقر دول المنطقة على الإطلاق، فأصبح نموذجاً مركّباً لمصفوفة الفقر والعدوان العسكري والتجويع الجماعي المستمر. وفي فلسطين ولبنان، فإن ما نشاهده من عنف صهيوني-إمبريالي يومي على مدى العامين الماضيين من تدمير وإبادة لمدن وبلدات ومناطق كاملة ليس إلا تكثيفاً لما كان يحصل بشكل مستمر خلال الثمانين عاماً الماضية ولا يزال.

وما يجري اليوم من حروب إبادة في فلسطين، هو امتداد لتاريخ طويل من العنف الإمبريالي الاستعماري الغربي ضد شعوب المنطقة والعالم. فكل ما يحصل من عدوان على فلسطين خصوصاً، والوطن العربي عموماً، يتزامن كذلك مع مسار عالمي كارثي على مستوى الأمن الغذائي والإنساني، كما على المستوى العسكري. فبيانات مؤسسة الأمم المتحدة لـ«التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي» (أي بي سي) يشير إلى أن أكثر من نصف مليار إنسان في غالبية دول الجنوب العالمي، من بنغلاديش في الشرق إلى غواتيمالا في الغرب، مروراً بأغلب الدول الأفريقية (الغنية جداً بالمصادر والثروات)، يعيشون في درجات متقدّمة (3-5) من انعدام الأمن الغذائي، من «الأزمة» إلى «الطوارئ» و«الكارثة».

هذا الواقع لا ينفصل عن آليات الهيمنة الرأسمالية التي تحتكر الموارد وتستثمر في الموت والفقر بوصفهما أدوات لضمان السيطرة. أما عسكرياً، فقد تحوّل الجنوب العالمي إلى مسرح عمليات شبه دائمة للقوى الغربية، حيث نفّذت القوات الخاصة الأميركية وحدها، بحسب تقارير رسمية، 116 عملية في عام 2011، ارتفعت إلى 96 عملية في أفريقيا فقط بحلول عام 2016 ، ما يعكس التوسّع المستمر في العقيدة العسكرية الإمبريالية.

في ضوء ما تقدّم، لا يمكن فهم الحروب الدائرة في فلسطين، خصوصاً في غزة ولبنان، بمعزل عن سياق المشروع الإمبريالي الغربي الأوسع. فهذه الحروب ليست أحداثاً استثنائية أو معزولة، بل تمثّل محطات متكرّرة ضمن مشروع استعماري إمبريالي غربي مستمر يعيد إنتاج آليات الإبادة بأشكال وأدوات متجدّدة. ومن هذا المنظور، لا تُعتبر المقاومة مجرّد ردّ فعل ظرفي، بل تُعتبر ضرورة وجودية، وأفقاً تحرّرياً في مواجهة مشروع لا يسعى فقط إلى الإبادة الممنهجة للشعب الفلسطيني، بل إلى نفي الوجود العربي السياسي والثقافي واقتلاعه، وليس فقط إخضاعه أو السيطرة عليه.

غير أن مرور عامين على حروب الإبادة هذه أظهر، بشكل أكثر جلاءً من أي وقت مضى، أن الإشكالية الجوهرية لا تكمن في غياب الوعي بما يحدث وكيف يحدث ومن المسؤول عنه، أو في قصور الفهم لدى الشعوب العربية والإسلامية، وحتى لدى شعوب العالم عموماً (ولا سيما منذ انطلاق حرب الإبادة على غزة)، لطبيعة الكيان الصهيوني ومشروعه، أو لطبيعة التحالف الإمبريالي الغربي الداعم له.

بل تتجسّد المعضلة أساساً في غياب الوعي الثوري الفاعل، أي الوعي الذي يُترجم إلى ممارسة سياسية وتنظيمية ثورية قادرة على المقاومة والمواجهة والتغيير. وفي ذروة المجازر التي ينفّذها الكيان الصهيوني، مدعوماً بشكل مطلق من المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، برزت في بعض الأوساط العربية والفلسطينية، مقاربات اختزالية تعمل على تشييء الإبادة وتتعامل معها بوصفها قضية إنسانية أو قانونية أو جنائية، أو حتى كحدث استثنائي في الصراع القائم ومن خارج سياقه الحقيقي، فاقتصر التركيز على توثيق الجرائم وتوصيفها ضمن الأطر القانونية الدولية، دون أن ينعكس ذلك في فعل مقاوم مناسب ومتناسب يعادل جسامة الكارثة وأبعادها التاريخية والوجودية.

استناداً إلى مجمل ما وقع منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وارتكازاً إلى غياب ردود الفعل التي تليق بحجم المأساة وجسامتها، يمكن الاستنتاج، بكل وضوح، بأننا نعيش لحظة من أشد لحظات غياب الوعي الثوري في التاريخ العربي الحديث. والمقصود هنا ليس غياب المعرفة بما يحدث ومعرفة المسؤول الحقيقي عن ما يحدث، بل غياب التلازم الضروري بين الوعي والممارسة.

ولا تقتصر هذه الأزمة على الإقليم العربي فحسب، بل تتعداه إلى العالم بأسره، في ظل ترييع وتدجين الطبقات العاملة والقوى الاجتماعية المتضررة، وانهيار وتراجع نوعي في أدوار الأحزاب السياسية التقليدية، وفقدان الفاعلية الثورية. فالمعرفة وحدها، مهما كانت واضحة، لا تفضي إلى التغيير ما لم تتجسَّد في فعل جماعي منظّم ومقاوم.

إنّ حالة الشلل الجماعي والصمت، أمام هذا التوحش، هي في جوهرها التعبير الأوضح عن الانهزامية وغياب الوعي الثوري الحقيقي. وبالتالي ليس المطلوب فقط فضح أدوات الهيمنة والرأسمال العالمي بوصفها أدوات قتل وإبادة – سواء أكانت أدوات عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو أيديولوجية – بل التأكيد أيضاً على أن وجود أدوات ورموز مقاومة فعّالة قادرٌ على إظهار هشاشة البنية الإمبريالية وضعفها الكامن، إذا ما وُوجِهت بفعل ثوري حقيقي.

لهذا، فاستمرار الصمت العربي والعالمي أمام ما يحدث في فلسطين، ولبنان واليمن، لا يمثّل فقط إخفاقاً أخلاقياً كارثياً للإنسانية جمعاء، بل يشير إلى تحوّل عميق في بنية الفاعل الاجتماعي والتاريخي على المستوييْن العربي والإسلامي، وأيضاً على المستوى العالمي. فهذا الغياب لم يعد مجرد انكفاء سياسي أو عجز مؤسسي أو ضعف تنظيمي، بل يُمكن قراءته بوصفه انعكاساً لهيمنة رأس المال والمنظومة الإمبريالية التي تعيد تشكيل الوعي الجمعي والخيال السياسي وتعيد تشكيل أنماط الوعي والسلوك والإدراك الإنساني، بحيث يُدفع الناس نحو القبول بصيغة أحادية للحياة: نحو صيغة يكون فيها الصمت نوعاً من التعايش مع القتل، ويُختزل فيها أمل الصامتين بأن يأتي قتلهم من قبل آلة التوحّش الإمبريالي الصهيوني لاحقاً لقتل الآخرين فقط، لا أكثر.

فالرأسمالية المتوحّشة، أفرغت وتُفرغ الفعل الجمعي من مضمونه، وأعادت إنتاج البشر بوصفهم أفراداً منفصلين، لا يملكون سوى أن يصمتوا وهم يشاهدون، في قتل غيرهم، قتلهم المؤجّل فقط.
لهذا، لم تعد إبادة الفلسطينيين مجرّد قضية سياسية أو إنسانية فحسب، بل أصبحت مرآة تعكس مآلات وتحولات العالم الحديث كله، ومصير الإنسانية في ظل الهيمنة الإمبريالية الغربية. والمُرعِب أن مشاهدة الإبادة، والصمت، والتواطؤ، وأيضاً غياب الفعل، باتت علامات فارقة جداً في مرحلة حاسمة جداً تُصاغ فيها الإنسانية من جديد، ولكن، هذه المرة، على أنقاض المعاناة والدمار والإبادة.

فالإبادة الجارية في فلسطين، خصوصاً في ظل غياب أي ردّ فعل إنساني فاعل، مناسب، ومتناسب، وضمن نظام عالمي يُعاد تشكيله وفق منطق السوق والربح الذي يتم تحصيله بالقتل والإبادة، تمثّل نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ الإنسانية الحديث. وإن استمرار هذا الصمت، مع تلاشي واندثار الفاعلين التاريخيين، ينبئ بمستقبل قاتم، لا يعاني فيه الإنسان من العنف وحده، بل من فقدان المعنى، ومن عجز العالم عن تبرير إنسانيته أمام أكثر الكوارث وأشدها وضوحاً ودموية.

لقد بات واضحاً في هذه اللحظة من التاريخ الحديث، أن الإمبريالية الغربية والعلاقات الرأسمالية في جوهرها هي علاقات قتل وإبادة، لا تستهدف الفلسطينيين والعرب وحدهم، وإن كانوا حالياً في مركز العاصفة الهمجية، بل تتجه نحو الكون بأسره، وبشكل خاص نحو شعوب الجنوب العالمي. وبفضل تضحيات شهداء غزة وفلسطين ولبنان واليمن، يدرك العالم طبيعة وحقيقة المنظومة الرأسمالية الإمبريالية العالمية ومستوى توحّشها أكثر من أي وقت مضى. لذلك، فإن الواجب التاريخي والإنساني يفرض استنهاض جميع القوى المقاومة، وتفعيل طاقاتها ضمن الصراع الجاري، من فلسطين إلى كل أصقاع العالم.

المقاومة، في هذا السياق وفي هذه المرحلة، ليست مجرد خيار استراتيجي، بل أصبحت تمثّل غاية وجودية وهدفاً بحذاتهد ذاته، وشكلاً من أشكال الدفاع عن الحياة والكرامة في مواجهة منظومة لا ولن تنتج إلا الإبادة، طالما أن رأس المال يتراكم من خلال العنف، والقمع والتدمير والإبادة. وعليه، فإن وجود المقاومة واستمرارها، بكل أشكالها، يُعدّان واجباً وضرورة قصوى لا بديل عنهما في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ البشرية.

هذا بياننا للناس: المقاومة غاية وهدف

لم يسبق في كل التاريخ الحديث أن شهد العالم، وعلى مرأى ومسمع مليارات البشر، جريمة إبادة جماعية واسعة النطاق تُنفّذ في الزمن الفعلي، وعلى مدار عامين متتاليين، وتنقل إلى العالم بالبث الحي والمباشر، كما يحصل في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومع ذلك، كشفت هذه التجربة عن مفارقة مأساوية: فبرغم حضور الكارثة في الوعي الإنساني العالمي الجمعي لم يُفضِ ذلك إلى أي تحرك حقيقي فعّال مناسب ومتناسب، بل تمثّلت ردود الفعل بالتبلّد، أو في أفضل الأحوال، بالتضامن العاطفي العابر.

ورغم هذا الحدث غير المسبوق، وبهذا الشكل، في التاريخ الحديث، فإن منظومات الرقابة، والخجل الجمعي، والقسوة لا تكتفي بحجب الاستجابة الأخلاقية والإنسانية، بل حتى تسخر أحياناً من مشاعر الحزن والذهول والرعب، من صدمتنا وحزننا على الفاجعة المروّعة التي حلّت بأهلنا في فلسطين ولبنان واليمن.

لقد عاينّا، وعايَن العالم كله، قليلاً فقط من تلك المشاهد والأحداث القاسية والمروّعة التي لا تُحتمل، تلك التي سطّرت فيها غزة تاريخاً غير مسبوق من الألم، والدماء، والقتل، والدمار. ولعامين متتاليين، لم يتوقف الموت عن الزحف بجنون، ولم تفرغ السماء من صرخات الأبرياء. شاهدنا جميعاً، وشهدنا، وشاهد العالم وشهد، مشاهد مروّعة لعدد كبير يومياً من الجثث الممزّقة والمحروقة والمقطّعة، لجثث الآلاف من الأطفال الصغار، محمولة على أيدٍ مرتعشة لآباء وأمهات مكلومين، لضحايا يُدفنون جماعياً يومياً بالمئات، أو يُحرقون في خيام النزوح، أو يُلقون في ممرات المستشفيات والشوارع بلا هوية ولا اسم.

المقاومة، في هذا السياق وفي هذه المرحلة، ليست مجرّد خيار استراتيجي، بل أصبحت تمثّل غاية وجودية وهدفاً بحدّ ذاته، وشكلاً من أشكال الدفاع عن الحياة والكرامة في مواجهة منظومة لا ولن تنتج إلا الإبادة، طالما أن رأس المال يتراكم من خلال العنف، والقمع والتدمير والإبادة

تابعنا وتابع العالم، لعامين كاملين ولحظة بلحظة، كيف يستباح الدم والإنسان بوحشية غير مسبوقة لم يكن ممكناً للعقل البشري أن يتخيّل أنها ممكنة الحدوث وأن البعض قادر على ارتكابها بهذه الهمجية والقسوة والتوحّش دون أن تنتفض الإنسانية لكرامتها ومصيرها الممكن. شاهدنا كيف يحمل أهلنا المكلومون على كاهلهم، وحدهم، يوماً بعد يوم، كل أوجاع الأرض، ويغرقون في ويلات وعذابات ومآسٍ لا تنتهي.

لكن، وبرغم هذا الكمّ الهائل من العنف والدمار والقتل البشع المستمر بلا انقطاع منذ عامين، فإن الردّ الفعلي والمناسب والمتناسب ظل غائباً، وحلّ مكانه لعامين متتالين صمت عربي وعالمي يكاد يكون تواطئياً. والمُفجِع جداً أن هذا الصمت يتفاقم كل يوم على الرغم من إدراك الناس ماذا يحصل وكيف يحصل ومَن المسؤول.

فبينما يواصل الناس، ويواصل العرب والمسلمون، في كل مكان حياتهم كالمعتاد، يُقتل كل يوم مئات من الأبرياء في غزة والضفة ولبنان واليمن بأكثر الطرق وحشية وهمجية وبأكثر الأسلحة تدميراً، أو يُجبرون على مشاهدة قتل وحرق وتقطيع أطفالهم أمام أعينهم دون القدرة على فعل شيء غير الانتظار ومناشدة العالم، أو يُجبر الأطفال على مشاهدة قتل آبائهم وأمهاتهم وعائلاتهم بوحشية أمام أعينهم، أو تباد آلاف العائلات الممتدّة كاملة وتُمسح كلياً من السجلّ المدني فلا يبقى منها حتى من يسرد شيئاً عن معاناتهم وعذاباتهم، أو حتى من يذكر أو يتذكّر أنهم كانوا بيننا وعاشوا مثلنا وأُبيدوا بوحشية غير مسبوقة.

ولعلّ الأخطر من كل ذلك أن الإنسانية كلها تواجه اليوم، من خلال هذه الإبادة، امتحاناً وجودياً غير مسبوق؛ امتحاناً لا يتعلّق فقط بقيمها ومبادئها، بل بمستقبلها ككل. فالسكوت على الإبادة الجارية في فلسطين والمستمرة منذ عامين سيكون عاملاً تأسيسياً يرسم مستقبل الإنسانية جمعاء ويحدد أي نوع من البشر سنكون، وفي أي مجتمعات ودول وفي وأي عالم سوف نعيش.

بناءً على كل سبق:

أولاً: إن كل ما سلف (انظر النص الكامل للبيان) من توصيف حال، بوحشيته وهمجيته، وأيضاً بمساراته واحتمالاته الرهيبة، يشكّل التبرير الأقوى والأمثل للمقاومة، والسبب الأكثر بلاغة لنصرتها والدفاع عنها، إلا لمن يقبل بهذا المسار المتوحش للإنسانية. فإذا لم يكن ما حصل ويحصل أمام أعيننا لعامين طويلين تجاوز كل ما نعرفه من توحّش وهمجية سيدفع للمقاومة، وحتى يجعلها ضرورة ملحّة وحاجة وجودية، فما الذي يمكن أن يكون سبباً قوياً لتبرير لمقاومة ورفض ما يجري.

ولو كان الناس في بلادنا يعيشون حتى بالحد الأدنى من الكرامة وإمكانات العيش التي لا تبرّر السكوت بحد ذاته، فلربما وجدنا تفسيراً، لا تبريراً، لبعض مَن يطالب بالسكوت مخدوعاً بوهم النجاة مع الصمت. فبعض الناس قد يختارون أحياناً العيش الصعب وحتى المُذِلّ على أن يفكروا في ما يعتبرونه توهماً مخاطرة بالرفض والمقاومة.

في الحقيقة، من المُدهِش أن بعض الناس أصلاً يختارون السكوت ويتحملون الكثير من الأذى على أن يتحملوا تبعات المقاومة التي ستكون ليس فقط أقل كثيراً في المحصّلة، ولكنها أيضاً تؤسّس لأفق نهاية هذا التوحش والهمجية. أما وأن الموت الآن حتماً قادم، والقتل البشع حتماً قادم، والدمار قادم لا محالة. وأما وأن السكوت هو فعل انتظار لقتل مؤجّل فقط، ورجاء ووهم غبي فقط بأن يكون حظك بأن تكون الأخير في قائمة القتل والإبادة، فلا سبب أفضل من ذلك للمقاومة. لهذا السبب بالذات، ولمثل هذه الحال أصلاً وُجدت المقاومة، وكانت أهميتها وضرورتها.

إن كل ما سلف يؤكد بشكل لا لبس فيه، ليس فقط أن المقاومة خيار واحد ووحيد للدفاع عن الإنسانية والوجود أمام آلة القتل الهمجية، بل إن مجرد وجود المقاومة المنظّمة أصبح غاية نبيلة بحد ذاتها وهدفاً مقدساً يستوجب الدعم والتكريس. فالمشهد العربي والعالمي ومآلاته المحتملة تشير كلها بوضوح إلى أن فكرة المقاومة أصبحت الجدار الأخير أمام سقوط الإنسانية كلها في براثن التوحّش والهيمنة. ومن ثمّ، فإن حركات المقاومة، بمختلف أشكالها وخلفياتها، لا تحتاج إلى تبرير وجودها أو الدفاع عن شرعيتها في وجه الحملات الإعلامية المسعورة التي يقف خلفها مرتكبو إبادة غزة، خصوصاً في هذا الوقت بالذات. فمستقبل الإنسانية ذاته، وحتى مجرد الأمل بمآلات بديلة للحياة في المستقبل، بات كل ذلك مرهوناً بمجرد وجود واستمرار هذه المقاومة.

ثانياً: بعد مرور عامين على جريمة الإبادة، بات العالم على دراية تامة، لا لبس فيها، بالجهات الرئيسية المسؤولة عن ارتكاب أفظع وأبشع الجرائم التي شهدها التاريخ الحديث. بات العالم على معرفة بمن الذي يقتل، ومَن الذي يموّل، ومَن الذي يُمَكِّن، ومَن الذي يصمت. إذ لم يكن بالإمكان أن يستمر الكيان الصهيوني في ممارساته الإجرامية كل هذا الوقت، وأن يكشف طبيعته وحقيقته المتوحّشة حتى بلا أي ردة فعل مناسبة ومتناسبة طيلة هذه المدة، لولا الغطاء السياسي والعسكري والأمني والمالي والإعلامي الكامل والشامل الذي وفّرته له المنظومة الغربية، كما توثّق ذلك التقارير الصادرة عن المؤسسات الحقوقية الدولية والأكاديمية، ولولا الدور الذي لعبته أيضاً بعض الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، سواء بحكم تواطئها أو صمتها وقمعها لمن يعارض الإبادة في بلادنا، أو حتى مشاركتها أحياناً.

لقد أسهم هذا التحالف العالمي المتوحّش في تشكيل واقع عالمي مأزوم، وضَع البشرية أمام مفترق طرق حاسم لا خيار فيه: فإمّا الانخراط في منظومة القتل والاضطهاد، بالصمت، أو التواطؤ، أو حتى المشاركة الفاعلة، أو اتخاذ موقف واضح لا لبس فيه للدفاع عن الكرامة الإنسانية وحق الشعوب في المقاومة.

ثالثاً: في ظل التصعيد المتواصل للتوحش الإمبريالي والصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بشكل خاص، وشعوب الجنوب العالمي بشكل عام، تتجلّى بوضوح القدرات التدميرية الهائلة التي تعكس اختلالاً هائلاً في موازين القوى العالمية. ومع ذلك، فإن هذه الهجمة لا تُخفي في المقابل بوادر تراجع في دائرة الهيمنة والسيطرة الأميركية والغربية، التي بدأت تنكمش تدريجياً بفعل تحوّلات بنيوية عميقة في النظام الدولي.

فمؤشرات قياس القوة الشاملة تشير إلى تراجع ملموس في الهيمنة الغربية، بما في ذلك مكانة الولايات المتحدة وأوروبا، في مقابل صعود قوى دولية من خارج المعسكر الغربي، وهو ما سيُفضي حتماً إلى اتساع رقعة الفواعل الدولية الخارجة عن السيطرة المباشرة للمنظومة الغربية، وبالتالي تراجع قدرتها على النهب والتحكم بالموارد العالمية.

ومع التضاؤل الحتمي للفضاء الجيوسياسي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها، ستتقلّص كذلك قدرتهم على تمويل مشاريع الهيمنة واستدامتها في المستقبل، بما في ذلك أنماط العنف المنظّم والتدخلات العسكرية كالتي نشهدها في فلسطين والمنطقة العربية. فتحوّلات النظام العالمي يمكن أن تمثّل منعطفاً تاريخيّاً. فإعادة تشكيل التوازنات الاقتصادية والسياسية والعسكرية في العالم ستؤدي حتماً إلى تراجع نسبي في الهيمنة الأميركية والغربية.

ولكنّ الأهم أن هذه التحوّلات تفتح آفاقاً للعمل المقاوم ولحركات المقاومة ليس فقط في المنطقة العربية، بل وفي دول الجنوب عموماً، وليس فقط كدفاع عن النفس أو كاستجابة أخلاقية وردّ على الإبادة، بل كخيار استراتيجي وتاريخي واعٍ، يُعيد صياغة معايير الإنسانية كما ينبغي لها أن تكون. هذا يدركه جيداً ليس فقط مَن يتسلحون بالأمل وفضيلة الصبر التي يتحلى بها المقاومون، بل وأيضاً مَن يدركون جيداً وعميقاً معنى المقاومة وجوهر انتصار حركات التحرر وفي القلب منه قدرتها الهائلة على التحمل والتضحية والصبر.

لهذا، لا يمكن فهم فعل المقاومة العربية، في فلسطين ولبنان واليمن، بوصفها رد فعل يائس، كما قد يتخيّل أو يدّعي بعض المتخاذلين، أو حتى مجرد تعبير أخلاقي محدود عن رفض الإبادة الجارية، مع أن المقاومة هي معيار الأخلاق الأسمى. بل ينبغي النظر إليها، برغم التضحيات الهائلة والخسائر الجسيمة التي تدمي قلوبنا، باعتبارها الخيار العقلاني، الواقعي، والتاريخي والإنساني الذي يتّسق مع التحولات الجارية في بنية النظام الدولي، ومع تراجع قدرة القوى المهيمنة على مواصلة مشاريعها الاستغلالية.

رابعاً: إن الصمت الشعبي العربي والعالمي على إبادة من نوع جديد، أكثر توحشاً وهمجية ووقاحة من كل أحداث التاريخ الحديث، دون أي رد فعل مناسب ومتناسب مع حجم الجريمة التي تُرتكب في غزة، وعلى مدى عامين كاملين، تؤشر إلى تحوّل عميق في بنية الفاعل الاجتماعي والتاريخي على المستويين العربي والإسلامي، وأيضاً على المستوى العالمي. فهذا الغياب الكامل وهذه الاستقالة من المسؤوليات الجماعية والفردية، ليسا مجرد انكفاء سياسي أو حتى عجز مؤسسي أو ضعف تنظيمي، بل هما أساساً انعكاس لهيمنة رأس المال والمنظومة الإمبريالية.

لكن حال العالم هذا، وحال الوطن العربي والعالم الإسلامي أيضاً، وبرغم كارثيتهما، غير مستداميْن، ولا ينبغي أن يدفعا إلى اليأس، كما قد يعتقد البعض. بل هذا بالضبط ما يفترض ويستوجب العمل أكثر والمقاومة أكثر للتصدي لهذا التوحش. فمصير الإنسانية، لا مصير غزة وحدها، أو فلسطين، أو لبنان، أو اليمن، هو الذي على المحك. فحرب الإبادة في غزة، وأيضاً العدوان الهمجي المستمر على لبنان واليمن، يمكن فهمهما وإدراك طبيعة وحقيقة المشاركين فيهما، كما يمكن أيضاً فهم حقيقة وطبيعة الكيان الصهيوني وموقعه ودوره ووظيفته، ليس فقط ضد الفلسطينيين والعرب، بل كعدو للإنسانية، وكأداة تنفيذية للقتل والإبادة والعدوان على مستوى متقدّم في المنظومة الرأسمالية. فليست المشكلة كما يدّعي الإعلام الغربي في حملاته التضليلية غير المسبوقة هي في وجود حكومة صهيونية متطرّفة، أو برئاستها من قبل مجرم حرب كنتنياهو يتهرّب فقط من السجن بقتل الأطفال.

المشكلة هي الأسُس التي تقوم عليها المنظومة الكونية التي تتوحش أكثر مع تراكم أزماتها. فتوصيف معهد «ليمكين» للكيان الصهيوني بأنه «مجتمع مُتشبّع بعمق بأيديولوجية الإبادة الجماعية» ليس إلا النتاج الطبيعي لهذه المنظومة المتوحّشة كلها، وليس إلا صورة مصغّرة عن عالم رأسمالي متوحّش أكبر تأسّس على الإبادات الجماعية وبُني على دماء الشعوب الأصلية، كإبادة السكان الأصليين في أميركا الشمالية، وإبادة إسبانيا للسكان الأصليين في منطقة البحر الكاريبي، وإبادة بريطانيا للسكان الأصليين في تسمانيا، والأهوال التي أُطلقت على العديد من الشعوب المُستعمَرة الأخرى، كإبادة ألمانيا للهيريرو والناما في ناميبيا، وعنف بلجيكا المفرط في الكونغو، وجرائم فرنسا والبرتغال ضد الإنسانية في قمع مقاومة السكان الأصليين، وغير ذلك الكثير.

هذا المسار العالمي يؤكّد حقيقة واحدة لا جدال فيها: نضال المقاومة الفلسطينية والعربية من أجل التحرّر من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ليس مجرّد قضية محلية أو خاصة بالفلسطينيين والعرب فقط، بل إن نضال الشعب الفلسطيني والعربي يرتبط عضوياً وبنيوياً بكل البنى النضالية في العالم، الساعية إلى بناء عالم أكثر عدالة ومساواة وإنسانية. لهذا، يشكّل النضال الفلسطيني والعربي ضد المشروع الصهيوني، بلا أدنى شك، ركيزة حقيقية وأساسية وصلبة لمشروع أممية إنسانية مضادة، تقوم على مبادئ الأخوّة الإنسانية والعدالة والمساواة بين البشر، كبديل ضروري عن النظام الأممي المتوحّش السائد الذي بات، نتيجة لجشع النخب المهيمنة، يُهدّد الوجود البشري برمّته.

لهذا بالضبط، إنّ المقاومة الفلسطينية والعربية ضد المشروع الاستعماري الصهيوني والهيمنة الإمبريالية الغربية في فلسطين والمنطقة العربية هي جزء لا يتجزأ من حركة التحرّر والمقاومة العالمية، إن لم تكن رأس حربتها راهناً. فالمشروع الصهيوني، بما يمثّله كنقيض مطلق لحركة التحرر الوطني العربية والعالمية، وكآخر وأبشع نماذج الاستعمار الاستيطاني في التاريخ الحديث، ليس مجرد ظاهرة معزولة أو حتى محلية أو إقليمية، بل هو عامل فعّال ومركزي في إسناد وترسيخ مختلف أنماط الظلم والقمع والاستغلال والنهب في العالم، وليس إسناده الشرس جداً لنظام الفصل العنصري البشع في جنوب أفريقيا حتى اللحظة الأخيرة إلا نموذجاً لأمثلة عديدة على حقيقة ودور هذا الكيان الاستيطاني.

ختاماً، إنّ صمود المقاومة الأسطوري في غزة ولبنان واليمن، وإصرار المقاومين الأبطال المُذهِل على الاستمرار في خوض المعركة المفروضة عليهم، ورفض الاستسلام المذل، وأيضاً صمود البيئات الحاضنة وتضحياتها الهائلة التي تقارب حدود المعجزة، تؤكد أن المقاومة هي المسار الوحيد الكفيل بإنقاذ الإنسانية جمعاء من مآلات كارثية ومستقبل معتم.

فبرغم الخلل الهائل في موازين القوى، والتي كانت تشير منذ البداية إلى احتمالات رهيبة جداً وقاسية جداً من الإجرام والتوحش، واجه المقاومون الأبطال والبيئات الحاضنة، ولا يزالون، آلة القتل الإمبريالية-الصهيونية ببسالة منقطعة النظير لم نشهد مثيلاً لها في كل تاريخ حركات التحرر، وينبغي أن لا يدفع صمودهم المدهش فقط لتبرير التفاؤل والتسلح بالأمل، بل وأن يؤكد أنه الخيار الوحيد الممكن للحفاظ على إنسانيتنا وأيضاً احترام وصون تضحياتهم الهائلة.

لهذا، نختم بياننا بترديد عبارة تقارب النبوءة لأنبل الثوار والمقاومين الذين عرفتهم الإنسانية، الشهيد السيد حسن نصرالله، للتأكيد أن ثالوث الإبادة والشر الإمبريالي الغربي-الصهيوني-الرسمي العربي لن يرى راية بيضاء وأن المقاومة ستظل ممسكة ومتمسّكة بالأمل وبوعد النصر، ليس من أجلها فقط، بل من أجل الإنسانية جمعاء. فـ«من بين الدماء الزكية، وبالرغم من مشاهد قطع الليل المظلم الزاحفة على منطقتنا، من بين رائحة الدم والبارود، ننظر بكل يقين، فنرى، خلف هذه القطع المظلمة من الليل المدلهم، أن هناك فجراً للنصر سيبزغ، وأنّ هناك شمساً للعدالة والحق، ستشرق على كل هذا العالم».

عاشت فلسطين عربية

عن المجموعة:
سيف دعنا، غسان أبوستة، صبيح صبيح، وسام الفقعاوي وصلاح الحموري