أ.ناصر قنديل دولة لا تدافع لا تملك حق حصر السلاح
الثلاثاء 2025/09/02
– يعرف المسؤولون في الدولة اللبنانية الذين يتحدثون عن نزع سلاح المقاومة، ويريدون تقديمه كحقٍّ مستقل عن مسألة الاحتلال، تمارسه الدولة دون شروط لمجرد أنها الدولة، وهي عملياً السلطة، أنّهم يسوّقون هرطقة دستورية وقانونية، أولاً لأن القانون الدولي العام والمواثيق الأممية تسخر من مثل هذا الحق المطلق ولا تعترف بوجوده، ومنذ نظريات الفيلسوف البريطاني توماس هوبز الذي يعتبر واضع الفلسفة السياسية في القرن السابع عشر، تقوم الدولة على عقد الحماية، الذي يربط الولاء للدولة والخضوع لقانونها وإلزاميّة دفع الضرائب لها والتنازل عن بعض الحريات لصالح ممارستها لسيادتها، بما في ذلك التخلّي عن حق مكتسب ما قبل قيام الدولة بامتلاك السلاح، بأن تقوم السلطة بحماية الدولة وأرضها من التهديد الخارجي، ويرى أن قيام الدولة في نشأتها تأسس على هذا التعاقد بين الناس كأفراد وجماعات والسلطات الناشئة عن تشكل الدولة، بحيث إن فشل السلطة في تنفيذ موجبات عقد الحماية، يُسقط عنها كل الحقوق المترتبة عليه، بما فيه حق جباية الضرائب وسن القوانين، وحكماً حق احتكار السلاح، ولعل استعادة أبرز أقوال هوبز مفيدة للتذكير، “الشرعيّة السياسية لا تعتمد على كيفية وصول الحكومة إلى السلطة، بل فقط على قدرتها الفعليّة على حماية الذين رضوا بطاعتها؛ فإذا توقّفت الحماية، تنتهي الالتزامات السياسيّة”، و”تكون السلطة السياسيّة شرعيّة طالما أن الحاكم يضمن حماية المواطنين، لأن الحق الطبيعي في الحفاظ على الذات لا يمكن التخلّي عنه”.
– ثانياً، نقول إن المسؤولين يعرفون ذلك، ولم يقرأوا هوبر، لسبب بسيط، هو أنّهم تحاشوا، سواء في خطاب القسم أو في البيان الوزاري، أمرين، الأول أن يتحدثوا عن حق احتكار السلاح من قبل الدولة، دون ذكر واجب الدولة أن تحمي وتحرّر وتدافع، والثاني أن يتحدّثوا عن تطبيق تلقائي لمبدأ احتكار السلاح، مع علمهم بوجود مقاومة تفوّقت أخلاقياً على السلطات السابقة في حمل مسؤولية التحرير والدفاع، لا يمكن مخاطبتها بغير لغة الدعوة لحوار من أجل وضع استراتيجية أمن وطني أو دفاع وطني، كما ورد في خطاب القسم والبيان الوزاري، ومن يتجاهل من المسؤولين اليوم هذا الربط بين احتكار أو حصر السلاح وواجب الحماية والدفاع والتحرير، والحوار حول استراتيجية دفاع وطني أو أمن وطني، إنما يعلم أنه يقدم هرطقة سياسية وقانونية، ويتنكر لالتزامه السابق الذي نال على أساسه الثقة المعنية او الدستورية، وليست المقاومة من يتنكر لتأييد خطاب القسم والبيان الوزاري، بل كل من يزعم قيامها على أحادية حصر السلاح واحتكاره بمعزل عن واجب الدفاع والتحرير وعن الحوار حول استراتيجية دفاع وطني.
– في القانون الدولي مرتكزات وثوابت حول عجز وفشل أو تخاذل الحكومات وتلكئها في القيام بواجب الحماية ومواجهة الاعتداء الخارجي، وكلها تجمع على أن حقاً جديداً ينشأ في هذه الحالة مكان حق الدولة باحتكار السلاح، هو حق الشعب بمقاومة الاحتلال والعدوان، وعملاً بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على حق الشعوب بالدفاع، باعتباره حقاً فردياً وجماعياً، ثم جاءت القرارات الأممية 1514 (1960) و2625 (1970) و3236 (1974) و3314 (1974)، تتدرّج في الحديث عن حق المقاومة وصولاً لإعلان شرعية الكفاح المسلح للشعوب في وجه الاحتلال الأجنبي، وصولاً إلى البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977) الذي اعترف بـ “حركات التحرّر الوطني” ككيانات مشروعة تحمل السلاح، حتى لو كانت الدولة القائمة لا تمارس هذا الدور.
– في التاريخ السياسيّ المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية لكيفية تعامل مؤسسات القانون الدولي مع شعرية الحكومات التي لا تقاوم الاحتلال ولا تدافع عن شعبها وتتذرّع بالضعف للصمت عن العدوان، مقابل شرعيّة حركات المقاومة، حيث يشكّل المثال الفرنسيّ تجسيداً حياً لسجال نموذجين قانونيين بين شرعيتين متنافستين، شرعية الحكومة المنبثقة قانوناً من البرلمان، وهو حال حكومة فيشي التي اعتبرت أن مواجهة الاحتلال النازيّ مغامرة جنونيّة سوف تجلب الدمار لفرنسا فقررت تحت شعار الواقعية الصمت عن الاحتلال النازي، ومقابلها شرعية المقاومة التي مثلها الجنرال شارل ديغول، وتمتلئ المكتبة القانونية الفرنسية بمواد هذا السجال التي تخلص كلها إلى حسم النزاع لصالح شرعية سلاح المقاومة أعلى مرتبة من سلاح الحكومة، لأن شرعية السلاح هنا مستمدّة من الإجابة عن السؤال المحوريّ، مَن يقوم بواجب الحماية للشعب والأرض بوجه الاحتلال والعدوان، وهذه أبرز المساجلات والدراسات:
● Olivier Beaud (أستاذ القانون الدستوري): يعالج أسئلة شرعيّة محاكمة بيتان وحدود “الشرعية” التي ادّعتها فيشي، ويضيء التوتر بين الشرعية الشكلية والشرعية الدستورية – الجمهورية.
● مداخلة منشورة على موقع مجلس الدولة الفرنسي (2025): تُشير إلى الجدل حول اعتبار “عدم الوجود القانونيّ لفيشي” مجرد “أسطورة غولية/خيال قانوني”، وتعرض سجالًا فقهيًا حول وجود “نظامين قانونيين متنافسين” بين 1940–1944.
● Jus Politicum (ملفات متخصّصة): دراسات تُحلّل “عقيدة فيشي” والرواية القضائيّة التي اعتبرت فيشي “حكومة زائفة”، مقابل اعتبار “فرنسا الحرّة” الممثل للجمهورية.
● Marc-Olivier Baruch, “Vichy and the Rule of Law”: قراءة نقديّة لسؤال “حكم القانون” تحت فيشي وحدود المشروعيّة زمن التهاون مع الاحتلال.
– باختصار إن كل بحث صادق في علوم السياسة والقانون، سوف يُفضي إلى خروج سلة الحكومة فاضية في سجال الشرعيّة حول السلاح بينها وبين المقاومة إذا قررت البقاء تحت سقف، لن نغامر بالمواجهة، وعلينا الاعتراف بتفوق الاحتلال، ويكفي الحصول على إدانة مجلس الأمن لعدم تنفيذ الاحتلال للانسحاب ووقف الاعتداءات والتأقلم مع ضياع الأرض وأمن المواطنين وصولاً لضياع كل الجنوب ومياهه وتهجير سكانه، وربما نستفيق ذات يوم على المستوطنين يضعون الحجر الأساس في مقام النبي بنيامين في محيبيب، والحكومة تقول إنهم في مجرد نزهة!