بمناسبة وصول الوفد الأميركي الثلاثي ليندسي غراهام وتوماس برّاك ومورغان أورتاغوس إلى بيروت، والثلاثي شغوف بكيفية تقديم الدعم للمشاريع الصهيونية وليس مجرد منفذ للسياسات الأميركية الداعمة لـ”إسرائيل”، يصحّ القول “المكتوب يُقرأ من عنوانه”، حيث المطلوب من الوفد العبث بالعقول اللبنانيّة لإعادة تعريف مفهوم تحديد الأولويات، وأخذ اللبنانيّين إلى زاوية خاطئة من القضايا يرون منها بعضهم عدواً لبعض، وينسون أن أصل الخلاف بينهم نابع من الإقرار بوجود عدوّ واحد للبنان يحتلّ أرضه وينتهك سيادته على مرّ الأزمان والأجيال وفي ظل تغيّر الوقائع المحيطة، بعض الأزمان مع مقاومة وبعضها بدون مقاومة، وأن حدود ووظيفة الافتراق هما حول كيفيّة مواجهة هذا العدو، وإذا بنا نكتشف، إذا تمهلنا حتى يتسنى الاكتشاف قبل أن يقتل بعضنا بعضاً، أن هذا الفرع الذي يصنع الخلاف، حلّ مكان الأصل الذي يظلّله الاتفاق، حيث لا يحق لنا الاعتقاد بأن المعنيين في الدولة، أو بعضهم لم يعودوا يرون أن هناك عدواً يحتلّ الأرض وينتهك السيادة، لأن هذا بحدّ ذاته جرم الخيانة العظمى الذي يبطل شرعيّة وجودهم في السلطة ويجعله اغتصاباً للسلطة وانتحال صفة.
العودة إلى الأولويّات التي يحدّدها الدستور يمنع البدء من الإجابة عن حصريّة السلاح كسؤال سياديّ، قبل السؤال عن العدو باعتباره الخطر الوجوديّ ومصدر عدوان وفعل احتلال، وهذه حقائق لا شعارات، هكذا قال شارل مالك وميشال شيحا وموريس الجميل ورياض الصلح وبشارة الخوري وفؤاد شهاب وصائب سلام ورشيد كرامي وريمون إده وكمال جنبلاط وصولاً إلى كل رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومة الذين تعاقبوا بعد اتفاق الطائف، خصوصاً الزعيمين الشهيد رفيق الحريري والعماد ميشال عون، ومعهما الرئيسان اللذان يحظيان بالاحترام الشديد، العماد إميل لحود كمؤسّس للعقيدة القتاليّة للجيش اللبنانيّ بعد اتفاق الطائف، والدكتور سليم الحص مثال لرجل الدولة وضمير الوطن.
مصداق تعريف الأولويّات يقدّمه لنا خطاب العدو نفسه عن “إسرائيل” الكبرى، وما يعنيه من أطماع لم تصل بعد إلى منتهاها تجاه لبنان، لتفسير مفهوم الخطر الوجوديّ، وتؤكده وقائع التمسك ببقاء الاحتلال خارج كذبة ووهم علاقة الاحتلال ببقاء سلاح المقاومة، وهو ما تنفيه أصلاً وفرعاً تصرّفات العدو في سورية، حيث لا مقاومة ولا سلاح ولا نوايا مقاومة، بل استعداد معلن للتعاون، وبعين الواقعيّة والموضوعيّة يجب أن تحتفل الدولة بوجود مقاومة عاقلة نفّذت موجبات ما اتفقت عليه مع الدولة لإقامة منطقة سيطرة مطلقة أحاديّة للجيش اللبنانيّ مدعوماً بقوات اليونيفيل، جنوب نهر الليطانيّ، وتركت للدولة صياغة استراتيجيّة تحرير الأرض ورد الاعتداءات، دبلوماسياً أو عسكرياً أو بكليهما، ملتزمة تجميد عملها، وعدم فرض أمر واقع يعطل على الدولة فرضية اختبار الاستراتيجية التي تراها الأمثل.
السؤال الرئيسيّ الذي تطرحه مسألة الأولويّات، هو إمكانيّة استعادة السيادة من قبضة العدو الغليظة دون امتلاك أسباب قوة عسكريّة، وقد صار واضحاً وثابتاً أن الاعتماد على الأميركيّ، إنّما هو تجميع للماء في سلة، والتجربة مع الأميركي واضحة بائنة في سورية، سقفها الأطماع والحسابات الإسرائيليّة، ومع لبنان بيع الأوهام وعند الاستحقاق التنصّل من الضمانات، والضغط لتقديم المزيد من التنازلات، وبكل الأحوال لا لزوم لنقاش بفرضيّة أن لا تفي واشنطن بوعودها وأن يبقى الاحتلال ويستمرّ العدوان ولو نزع سلاح المقاومة، طالما أن نائب رئيس الحكومة لم يستطع الجزم بأن هذا لن يحدث واكتفى بالقول إنّه لا يملك جواباً على هذه الفرضية وإن ما تقوم به الحكومة هو رهان على أن تنفذ “إسرائيل” موجباتها في الاتفاق، أما رئيس الحكومة فقد قال إنّه يكتفي بالحصول على إدانة من مجلس الأمن، يبقى بعدها الاحتلال معضلة بلا حلّ ويستمرّ بعدها العدوان بلا منع ولا ردع.
وفق معيار الأولويّات تحدّدها التحديات، وفي ظل تحدٍّ وجودي واحتلال وعدوان، والمعادلات المحيطة بنا والتي اختبرناها مع زمن المقاومة الذهبيّ، لا جواب إلا امتلاك القوة، فحيث هناك قوة تردع تنكفئ “إسرائيل” وتتراجع، وها هو مثال اليمن ومثال إيران، وفي بناء القوة عندما نتفق أنه الأولويّة، لا مشكلة بالقول إن الاستثمار على بناء قوة الدولة وجيشها يقع في المقام الأول وبعدها نرى إن كانت هناك حاجة للمقاومة وسلاحها، ومن حق أهل المقاومة أن يقولوا إنهم سلفاً يرون أن بقاء المقاومة ضرورة، ومن حق أهل الحكم أن يقولوا سلفاً إنهم لا يرون ذلك، وأن ينطلق الفريقان من هذه النقطة، لتجميد فعل المقاومة والسير في بناء قوة الدولة وتقييم حاصل هذا المسار في كل مرحلة، وعندما تبنى للدولة قوة تقوم بالمهمة وتنجح كما نجحت المقاومة، ومعيار النجاح يقرّره أهل القرى الأمامية بعودتهم إلى قراهم بعزة وكرامة وإعادة بناء بيوتهم ومنشآتهم، وشعورهم بالأمن وصولاً لإعادة بناء بيوتهم على خط الحدود
الأماميّة، يحق للدولة الحديث عن انتهاء زمن سلاح المقاومة، وسوف تكون المقاومة أول الفرحين بعودة شبابها إلى جامعاتهم وأعمالهم وعائلاتهم، وقبل ذلك فإن النقاش لم يبدأ بعد كي يتسرّع أحد بإنهائه.
كلام الشيخ نعيم قاسم أمين عام حزب الله يعيد طرح هذه الأولويّات، ويدعو لتقديم المقترحات، ونحن نقترح البدء بامتلاك لبنان وجيشه شبكة دفاع جوي، وتأسيس لواء الإسناد الصاروخيّ في الجيش تهديه المقاومة تشكيلة من صواريخها ويفتح فيه الباب لبعض خبرائها وضباطها، وتنشأ للجنوب قوة مقاتلة تتولى تدريب وتسليح أهل القرى تحت قيادة الجيش ويكون شباب المقاومة ضمنها، وبعدها نرى، أما قبلها فكل كلام عن نزع السلاح هو إعلان الاستسلام لخيار بقاء الأرض تحت الاحتلال والبلاد في ظل العدوان، وهذا كافٍ لسقوط شرعيّة أيّ سلطة بميثاقيّة وبدونها.
أ.ناصر قنديل