على الأرجح يمكن القول إن الذين ينادون اليوم بوضع سلاح المقاومة في كفة مقابلة للانسحاب الإسرائيلي والتعهد بوقف الاعتداءات لا ينتبهون أنهم يدعون لإنعاش روح اتفاق 17 أيار 1983 الذي قام على معادلة شبيهة. وجوهر معادلة 17 أيار يقوم على ركيزتين، الأولى سحب الذريعة الإسرائيلية بادعاء الشعور بالتهديد، وطمأنتها بالتالي بما تعتقد أنه كافٍ لنيل اطمئنانها بما يكفي لإثبات زوال التهديد، كثمن لا بد منه لتفادي شرور عدوانها واحتلالها. والركيزة الثانية هي أن هذه المقايضة تحظى بدعم غربي وعربي كافيين لتوفير شبكة دعم وأمان للموقف اللبناني و»إلزام إسرائيل» بالتقيد بالموجبات، لجهة الانسحاب ووقف الاعتداءات.

لأنه ليس من معلّم مثل التاريخ، ولأن أصحاب الدعوات الساذجة المتجددة لما سبق وتم اختباره، لم يرجعوا للتاريخ يسألونه، فلا بد من استدعاء التاريخ للإدلاء بشهادته علناً. وللمقارنة فقط لا بد من التذكير أن حجم الاحتلال الإسرائيلي يومها كان يطال قرابة نصف مساحة لبنان حتى حدود العاصمة، أي مئة ضعف أو أكثر من حجم مساحة الأراضي التي تحتلها «إسرائيل» اليوم، وأن المقاومة يومها كانت أقلّ قدرة وخبرة بمثل النسبة ذاتها، مئة ضعف أو أكثر، وأن حجم ما تستطيع المقاومة التحدّث عنه كإنجاز لا يسمح بالقول بقدرتها على إنجاز بحجم التحرير الذي حققته عام 2000، ورغم كل الصدق من جانب الدولة اللبنانيّة آنذاك ممثلة بالرئيس أمين الجميل، في اعتماد الاتفاق أساساً لإنهاء الاحتلال ووقف الاعتداءات، فإن ما كان يقابله من الجانب الإسرائيلي، كما يقول الرئيس الجميل في مذكراته عن فترته الرئاسيّة، التي تحمل عنوان الرئاسة المقاومة، هو التملّص من كل التزام والتهرّب من كل مطالبه، إلى حد أن الرئيس الجميل يقول إن إسرائيل أسقطت الاتفاق بطريقة انسحابها التي تسبّبت بنشوب حرب طائفيّة في الجبل عام 1983، قبل أن يقوم كرئيس بإلغاء التفويض بإبرام الاتفاق عام 1984 بعد انتفاضة السادس من شباط، وإن الضامن الأميركي للاتفاق لم يفعل شيئاً رغم الشكوى المتكررة وصولاً إلى زيارة الرئيس الجميل لواشنطن في خريف العام 1983 طلباً للمعونة دون جدوى.
ما نتعلّمه من التاريخ أن لا اتفاقات ولا التزامات ولا سحب ذرائع ينفع مع «إسرائيل» إذا شعرت بأنها تملك القوة اللازمة للحفاظ على الاحتلال، الاحتلال، والعدوان، أي عدوان. والمقصود بالقوة هنا القوة العسكرية فقط، لأن لدى «إسرائيل» الثقة بأنها إذا امتلكت مثل هذه القوة فإن الحصول على التغطية السياسية سيكون سهلاً في ظل دعم أميركي غير مشروط تحظى به، في كل حالة احتلال وعدوان، ولو في ذروة الخلافات الأميركية الإسرائيلية، والدعم الأميركي اللامشروط واللامحدود كفيل بإسقاط اي انتقادات أوروبية وغير أوروبية، مهما كان مستوى الاستقلال الأوروبي، وكفيل بإحباط أي اعتراضات روسية أو صينية، حتى في زمن قوة الاتحاد السوفياتي، وتكفي العودة لمذكرات الرؤساء الذين عايشوا حرب العام 1967 للتحقق من ذلك، وأبرزها ما تركه الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول.
ما قدّمه اتفاق 17 أيار كان التزاماً لبنانياً بالتنازل عن مصادر قوة مفترضة، والتخلي عن السعي لامتلاك أي سبب للقوة، والتسليم بأن لـ»إسرائيل» الحق بالتحقق من تنفيذ لبنان لهذه الالتزامات، وما يُدعى لبنان لتقديمه اليوم هو تفكيك قوّته الموجودة التي حرّرت عام 2000 والتي منعت الاحتلال من التوسّع بقتال أسطوريّ على الحافة الأماميّة للحدود لستين يوماً أجبر الاحتلال على القبول بوقف إطلاق النار، وواهم مَن يعتقد أن ما بعد تفكيك مصادر القوة سوف يكون تراجع عناصر التهديد الإسرائيلي، وساذج مَن يتوهم أن ما سوف يلي تفكيك مصادر القوة هو انسحاب إسرائيلي ووقف الاعتداءات، لأن التطلع الإسرائيلي نحو لبنان أوسع من نطاق نفوذه الحالي وزوال القوة التي يراها مصدر تهديد سيفتح له الطريق نحو تحقيق المزيد، بدلاً من الاعتقاد بأنه سوف يتراجع، والأكيد أنه لن يلقى إلا الثناء والترحيب من واشنطن، وعبرها الصمت من سائر العالم.
يبقى الذين يعتقدون بأن تشكيل نصاب سياسي بوجه المقاومة وسلاحها كافٍ لضمان حصارها وتمرير ثقافة وروحية 17 أيار، وهؤلاء لا ينتبهون أيضاً أن النصاب السياسيّ بلا قيمة في مثل هذه الحالات، فلا التوزيع الطائفيّ يسري على نصاب تأييد ومعارضة الاحتلال ومقاومته، ولا النظام التوافقي له قيمة هنا، فقد توافر لـ 17 أيار عام 1983 الدولة بكامل مؤسساتها، رئاسة وحكومة ومجلس نيابي، وجيش وأمن وإدارة ومرجعيات، وكان للمقاومة نصاب شعبيّ لأقلية شجاعة ترفع صوتها وتخرج إلى الشوارع تتلقى الرصاص في صدور شبابها ولا تتراجع، وتحمل عذابات السجون ولا تتراجع، وكتلة شبابية تنخرط في عمليات المقاومة كافية لإرهاق الاحتلال واستنزافه، ولأن جماعة 17 أيار مارسوا المكابرة والإنكار بعناد، سقط 17 أيار وأسقط معه النظام السياسي الذي حمل بذرته.
من المهم تقدير معنى قراءة رئيس الجمهورية للتاريخ، وتمسكه بأولوية الانسحاب ووقف الاعتداءات على أي بحث بمستقبل السلاح، وربطه لبحث مستقبل السلاح باستراتيجية وطنية للدفاع، ولو أنّه يجاهر بالدعوة لحصر السلاح بيد الدولة، لكنه موقف لا يقبل حلاً بغير الحوار ولا يقبل إحراجاً بجدول زمنيّ، لعل في ذلك ما يردع جماعة 17 أيار عن السعي لتوريط لبنان باختبارات كلّفه مثلها الكثير سابقاً.
الأستاذ ناصر قنديل