ربّما يستطيب البعض حصر الحديث عن تداعيات الحرب التي شهدتها المنطقة على قوى المقاومة واستطراداً على إيران، ويتعمّد تغييب حقيقة أن “إسرائيل” فقدت كل شروط التحرّك بمفردها بعد هذه الحرب، وقد تحوّلت إلى محمية أميركية تنتظر التمويل والتسليح والحماية والقرار، فقد انهارت “إسرائيل” يوم الطوفان واستهلكت ذخائرها بعده، وفقدت قدرة التباهي بقوّاتها البرية التي نزفت وخسرت الكثير من هيبتها وقدراتها البشرية وفرصة تحقيق أي إنجاز يُذكر، ونزحت عنها الرساميل الكبرى والعقول المستثمرة في التكنولوجيا المتقدّمة، وصارت كلّما أرادت التحرّك خطوة عسكرية تحتاج إلى موافقة أميركا لتحصل بفعل الموافقة على السلاح والذخيرة والمال والضمانة بالتدخل الأميركي للحماية، كما حصل مع الضربة الإيرانية التي قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنه لولا تدخل أميركا وحمايتها لكانت النتيجة دمار “إسرائيل”.
بمقدار ما يعني هذا أن أي قرار بشنّ الحرب يجب أن يكون أميركيّاً حتى لو تمّ تكليف “إسرائيل” بشنّ الحرب، فإنّه يعني أيضاً أن على أميركا التحسّب للتورّط الكامل في الحرب إذا ما ترتب عليها تعرّض “إسرائيل” لمخاطر كبرى تعلم أميركا أن حدوثها ممكن جداً. وهذا يعني أن الفارق بين حرب إسرائيلية على إيران وحرب أميركية أو أميركية إسرائيلية هو فارق تكتيكي. ففي كل الخيارات على أميركا الاستعداد سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً لفرضيّة الانخراط في حرب مفتوحة مع إيران. وهذا يعني وفقاً لكل المقاربات الأميركية حرب استنزاف تمتدّ لسنوات، لاستحالة الحديث عن حرب خاطفة ونصر حاسم، مهما كانت شدة وفعالية الضربة الأولى، لأنه سوف يبقى لإيران من برنامجها النووي وقدراتها العسكرية ما يمكنها من الردّ، ويتيح لها مواصلة القتال، ولكن بشراسة أكبر ودون خطوط حمراء، طالما أن المحظور الذي كانت تسعى إيران لتفاديه قد وقع.
من المهم أن نتذكر أن الحرب التي نتحدّث عنها بين أميركا وإيران لن تدور في أميركا أو في منطقة ثالثة غير إيران وغير أميركا، لأنه في هاتين الحالتين سوف يكون الحديث عن انتصار أميركي أقرب إلى الواقع، أما وأن الحديث عن حرب تدور فوق الأراضي الإيرانية، بهدف إخضاع إيران، دون أن تقدم السلطات الإيرانية على فعل هجومي يمنح المبرر للحرب بعيون جزء كبير من الإيرانيين، سواء عبر تصعيد نووي كبير، أو شنّ حرب على “إسرائيل” لإسناد غزة أو لبنان، فإن الشعب الإيراني بخلاف ذلك سوف يقف بكل قوة وراء قيادته للردّ على الحرب، وسوف يكون الرهان على تداعيات داخلية تهدّد استقرار النظام في إيران، نوعاً من الوهم.
عندما يكون ظهر إيران إلى الجدار ولا خيار أمامها، سوف نشهد قتالاً إيرانياً مريراً، ولدى إيران أوراق قوة تعرفها أميركا جيداً، أولها أن الهدف الأميركي المعلن وهو تفادي امتلاك إيران لسلاح نوويّ سوف يكون أول ضحايا الحرب، حيث لن يبقى ما يجعل إيران تتردّد في الذهاب لتسريع إنتاج سلاح نوويّ والإعلان عن تحولها إلى قوة نووية عسكرية، وحدوث هذا التحول يعني خسارة أميركية معنوية واستراتيجية كبيرة تفقد استمرار الحرب أيّ قيمة.
في هذه الحالة لن يعود لدى إيران أيّ سبب كي لا تقلب الطاولة في أسواق العالم بوجه أميركا، وتقفل الممرات المائية والبحار أمام تجارة النفط وتوقف حركة الناقلات، خصوصاً من الخليج نحو الغرب، وهذا المحظور كان دائماً حاضراً في الحسابات الأميركيّة ومواقف المسؤولين الأميركيين، والخشية من إغلاق مضيق هرمز كانت دائماً ترد في أدبيّات أميركيّة تتحدّث عن تفادي الحرب أو عن خطط بديلة لنقل النفط مثل أنبوب الغاز القطري عبر السعودية وسورية إلى أوروبا، وتجربة واشنطن العسكريّة في ردع اليمن عن التحكم بعبور السفن من مضيق باب المندب والفشل بعد سنة ونصف في ضمان عبور السفن المتجهة إلى كيان الاحتلال، تُعطي الأميركيين نتيجة قاطعة بفشل مماثل في حالة الحرب مع إيران، ويقول إن انهيارات مالية واقتصادية سوف تتزامن مع الحرب وتتصاعد كلما طال أمد الحرب.
إذا وقعت الحرب سوف تضع إيران كل ثقلها العسكري لترجمة تهديداتها باستهداف القواعد والمصالح الأميركيّة في المنطقة، وسوف تكون “إسرائيل” تحت وابل من الأمطار الصاروخية، التي لن يكون بمستطاع الدفاعات الأميركية المنصرفة لحماية قواعدها ومصالحها تقديم الكثير من المساعدة لحمايتها، وبين حال إيران وحال “إسرائيل”، يمكن القول بثقة إن انهيار “إسرائيل” في مثل هذه الحرب سوف يحدث قبل انهيار إيران.
رغم أهمية كل هذه العوامل في سعي واشنطن لتفادي خيار الحرب، يوجد سبب كبير يجعل الحرب أقرب للاستحالة، حيث يقول كل الذين يهتمون بمكانة أميركا في النظام العالمي، إن التقدم الصيني النوعي الذي أتاح التفوّق على أميركا اقتصادياً، وإن التقدم العسكري الروسي في تصنيع الأسلحة الاستراتيجية والتفوّق على أميركا، قد حدثا بينما كانت أميركا منشغلة منذ مطلع القرن في حروب المنطقة، وإن انزلاق أميركا إلى حماقة

مشابهة سوف يكون كافياً لحسم الهيمنة العالمية لصالح تحالف صيني روسي لن يكون بمستطاع أميركا التفكير بمواجهته إلا إذا نجحت بالخروج من حروب المنطقة بدلاً من الاستجابة لدعوات التورّط بالمزيد منها.

ناصر قنديل