– حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعويض الضعف الأميركي بصوته المرتفع ونبرته التهديدية، وهذا ما فعله في مخاطبة بنما وكندا والمكسيك والدنمارك التي تملك جرينلاند، ثم مع الأردن ومصر في خطة تهجير غزة، لكنه لم يتردّد في التراجع عن تهديداته بدون تفسير عندما كان يكتشف أن صراخه لم يترك الأثر المنتظر، لكن رؤية ترامب لموازين القوى وتقديره لإمكانيّة التلويح باعتماد القوة لفرض الإرادة الأميركيّة تظهر في المواجهة التي تتخذ وحدها، طابعاً استراتيجياً في تحديد المجالات الحيويّة للحضور الأميركيّ في السياسة الدولية. وهي المواجهة مع روسيا. وهنا لم يُخف ترامب أولويّته في السعي للتفاهم مع روسيا وإغلاق الحرب المفتوحة معها في أوكرانيا، عبر مراعاة شروطها ومعاييرها لتحقيق السلام، مُضحّياً بالمصالح الحيويّة لأوروبا التي ارتضت أن تكون أداة أميركيّة طيّعة في هذه الحرب، وأوكرانيا التي أحرقت قيادتها بلدها وموارده وعمرانه واستقراره ولاحقاً سوف تضطر للتضحية بسيادته ووحدته ثمرة التحاقها بالسياسات الأميركيّة.
– أميركا ترامب التي تتملّق لروسيا تجنّباً لمواجهة خاسرة تورّطت فيها، تحاول تقديم التراجع باعتباره تصحيحاً لخطأ وقعت فيه إدارة سابقة بعكس المصالح الأميركية، لكن العالم يدرك أن التوازنات الدولية تقوم بين ثلاثة أركان كبار، أميركا وروسيا والصين، وأن أوروبا بيضة القبان الأميركيّة في ربح المنازلة مع روسيا والصين، وأن ما يجري هو تراجع أميركيّ أمام روسيا، قد يلحقه تراجع مماثل أمام الصين، وأن أوروبا هي الضحيّة في الصورة الجديدة لهذه التوازنات، ولذلك تبدو جولة التصعيد الأميركيّ على اليمن في أحد وجوهها محاولة لشراء صورة القوة التي فقدتها أميركا في المشهد الأوكرانيّ أمام روسيا التي تظهر كلاعب وحيد يرسم الخرائط ويحدّد الخطوات.
– تدرك واشنطن أن التباهي بإنجازات إسرائيلية أميركية في غرب آسيا لا يزال مبكراً، فالنجاح في توجيه ضربات لقوى المقاومة، رغم حجم الألم الذي تسبّبت به هذه الضربات، لم يخلق استقراراً ترسو عليه موازين القوى بين جبهة واشنطن وتل أبيب من جهة وجبهة قوى المقاومة من جهة مقابلة، لأن الخسائر التي أصابت قوى المقاومة دفعت بها للتموضع وراء خطوط دفاع جديدة، حيث ارتضت المقاومة في لبنان التراجع لصالح الدولة اللبنانيّة الصديقة لواشنطن ومراقبة مدى استعداد واشنطن وتل أبيب لفعل المثل كشرط لتسوية تحقق هدنة طويلة، فيما تبدو واشنطن مرتبكة بين كيفيّة التعامل مع دولة حليفة وليدة في لبنان من جهة ومن جهة مقابلة مع حجم الضعف الإسرائيلي الذي يفسّر العجز عن تحمل تقديم أي تراجع أمام الدولة اللبنانيّة رغم أهميّة ذلك بمنطق إسقاط مشروعيّة المقاومة، وكذلك في غزة حيث ارتضت المقاومة التراجع عن التمسك بموقعها كسلطة وارتضاء صيغة ترعاها مصر تحت راية السلطة الفلسطينية، بينما ترتبك واشنطن في إدارة الوضع مع حليفها المصري ومن خلفه حليفها السعودي وربط الحل في غزة بسقف عربي لا يستطيع تجاهل حل الدولتين كإطار عام لحل القضية الفلسطينية، في لحظة تاريخية تقول إن زمن قدرة «إسرائيل» على التعامل مع فكرة دولة فلسطينيّة في الضفة الغربيّة صار شيئاً من الماضي ولن يعود.
– في قلب هذا الارتباك الأميركيّ تدور مفاوضات غزة، بعد توقف تل أبيب عن تنفيذ اتفاق رعته أميركا وقبلته «إسرائيل». وتقع أميركا بين سندان الحاجة للتعامل بواقعيّة مع لا جدوى العودة للحرب، واستحالة القضاء على المقاومة، واسترداد الأسرى دون الاتفاق، وسقوط مشروع التهجير بالضربة القاضية المصريّة السعوديّة والفلسطينيّة أساساً، وعندما تستحضر «إسرائيل» سلاح التجويع، يحضر اليمن بسلاح الحصار البحري، فتحضر واشنطن بسلاح التهديد، لكن ما الذي تغيّر عن مسار المواجهة في البحر الأحمر خلال سنة ونصف، حتى لو قال ترامب إن المشكلة كانت في سلفه جو بايدن، فهل يصدّق قادة الجيوش الأميركية ذلك وقد قالوا ما يكفي عن لا جدوى منازلة اليمن؟
– يتحوّل اليمن إلى التعبير عن القوة الأنقى في جبهة قوى المقاومة، حيث تتماهى الإرادة بين القيادة والقوات المسلحة والشعب بصورة استثنائية نادرة، وحيث الفطرة والعقل والإيمان وفلسطين عناوين جامعة لكل اليمنيين، ولذلك يبدو الرهان الأميركي رغم صخب الخطاب عن رسائل موجّهة لإيران، وعن قرار بحسم يُنهي قدرة اليمن على الإمساك بالملاحة في البحر الأحمر، مجرد بروباغندا تغطي على التراجع أمام روسيا، وتقدّم الدعم المعنوي لكيان الاحتلال، بانتظار رسو التفاوض على صيغة تشكل بذاتها مدخلاً للعودة إلى اتفاق غزة، بعدما يحاصر الرأي العام في الكيان تهديدات المتطرّفين بإطاحة حكومة نتنياهو، وعندما يُفكّ الحصار عن غزة، سوف يفك اليمن حصاره عن الكيان، ويجد الأميركي استراتيجية خروج من حربه الفاشلة.
– لا يمكن تسمية التكتيكات بالاستراتيجية لمجرد إطلاق الاسم عليها.
ناصر قنديل