لا يوجد أعمق و لا أصدق من كلمة شهيد ،و خاصة إذا كان هذا الشهيد مثقفًا مشتبكًا كالشهيد الفلسطيني الأيقوني باسل الأعرج ، الذي ارتقى باشتباكٍ مسلحٍ مع العدوِّ الصهيوني في مخيم قدورة وسط محافظة رام الله و البيرة في السادس من أذار 2017 ، فترجم كل كتاباته و مقالاته العميقة و ذات البعد الوطني و الأدبي الكبير بالاشتباك المباشر مع العدو الصهيوني ،و كان ضغطه على زناد “الكارلو” ذا مدلولاتٍ أعمق من الكلمات…

جاء في إحدى كتابات الشهيد باسل الأعرج الشهيرة “فلسطين هي المعيار الأخلاقي لأيِّ إنسانٍ فإذا أردت رؤية الجانب الأخلاقي في أي إنسان اعرف موقفه من قضية فلسطين والمقاومة في فلسطين”، علَّمنا هذا الشهيد المثقَّف الفذُّ بذلك أن ننظر للأمور بعيونٍ فلسطينية و أن نقيِّم كلَّ الأشخاص و الدول بمعيار فلسطين..
ففلسطين هي قضية العرب و المسلمين الأولى و “إسرائيل” تشكل خطرًا وجوديًّا على المنطقة ، عدا عن البعد الإنساني المجرَّد عندما نفرز الخير و الشر و الحق و الباطل ، و عليه و لأسباب كثيرة ،رفع رئيس تحرير دار الآداب اللبنانية د. سماح إدريس شعار “إذا تخلّينا عن فلسطين تخلّينا عن أنفسنا” ، و بذلك عندما ننظر للأمور بهذا المعيار لا نكون ضيقي النظر ، بالعكس تمامًا..فنظرتنا بذلك تكون شاملةً و تامّةً..
و عندما ننظر لدول العالم يكون تعاطينا معها من خلال منظور فلسطين ، فكم نحبُّ جنوب إفريقيا و فنزويلا و كم نبغض ألمانيا و الأرجنتين ، و عندما ننظر للأنظمة الرسمية العربية،ننظر بهذا المعيار أيضا فنجدها مجرَّد كومبرادورات تابعة للإمبريالية الصهيونية إلا قلةً قليلةً مقاومةً, و دفعت الثمن غاليا!، و عندما ننظر إلى الأحزاب و الحركات أيضًا يكون منظورنا لها بمعيار فلسطين ، كم نحبُّ حزب الله و الحزب السوري القومي الاجتماعي ، و نبغض حزب القوات و الكتائب ، ولكن حدث تغيُّرٌ بالآونة الأخيرة في سورية و جاء رئيسٌ جديدٌ و حكومةٌ جديدةٌ ، فحقٌّ لنا أن نقيِّمها من منظور المثقَّف المشتبكِ..
فوجدنا أن هذه الحكومة السورية الجديدة سهَّلت علينا الأمر كثيرًا في تقييمها ، و لم تكلِّفنا عناء البحث في ذلك ، فقضية فلسطين ليست من ضمن برنامجها!! , حتى أنها لم تذكرها بداعي ذرِّ الرماد بالعيون و لم تأخذ بنصيحة الشاعر السوري الكبير نزار قباني:“قولي و لو كذبًا كلامًا ناعمًا إنَّ الحروفَ تموتُ حين تقالُ” ، و لا حتى التيارات التي انبثقت منها ك”هيئة تحرير الشام” أو “جبهة النصرة ” أو “داعش” أو ثوار برلين.، كانت قضية فلسطين تعني لهم شيء..
و للأسف الموضوع ليس خذلانًا فحسب بل إنه تآمرٌ ضدَّ فلسطين … فنجد “الرئيس” أحمد الشرع (الجولاني سابقًا) بمجرَّد أن استلم الحكم اتخذ إجراءات ضدَّ الفصائل الفلسطينية ، إذ وضع جزءًا من قياداتها تحت الإقامة الجبرية و أغلق جميع مكاتبها ، و صادر أسلحتها و أموالها و ثكناتها الموجودة في سورية منذ عقود و نلاحظ أن هناك حملة مسعورة ممنهجة من قبل أتباع الجولاني ، على وسائل التواصل الاجتماعي ، ضد الفصائل الفلسطينية ، تحت ذريعة اتهامها أنَّها أداةٌ بيد الرئيس بشار الأسد ، و هذا الاتهام تحجيم لهذه الفصائل التي انتصرت على أعتى القوى العالمية بغزة ،والتي لم تتبع يومًا لأحد, بل هي كانت منفتحة دائمًا على كلِّ من يحمل الفكر المقاوم بالمنطقة ، و كون هذه الفصائل تعبِّر عن التيارات الفكرية للشعب الفلسطيني من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين فنجد أنَّ المستهدف هو الشعب الفلسطيني و قضيته العادلة و المستفيد هو الصهيوني و نجد أيضًا أنَّ الإساءة لهذه الفصائل إساءةٌ للشعب الفلسطيني كلِّه ، و وصل بهم أيضا الأمر لشنِّ حملةٍ مسعورةٍ ضدَّ مقاوم كشخص أسامة حمدان لأنه قال محور المقاومة قد خسر سورية..
نعم محور المقاومة قد خسر سورية ، فالجولاني و اتباعه الذين-انطلقوا بعد 15 ساعة من تهديد نتنياهو للرئيس الأسد -كان أول أهدافهم قطع إمداد السلاح من سورية إلى حزب الله العدو اللدود للكيان الصهيوني ، و ليس مصادفةً أن يقول نتنياهو في خطابه الشهير ، “الجيش السوري يرسل الأسلحة لحزب الله و الرئيس الأسد يلعب بالنار “  ثم يحدث ما يحدث بطريقة دراماتيكية..
سيخرج لي شخص منتشٍ ب”انتصار الثورة” و يسألني السؤال الشهير ، هل دماء الشعب الفلسطيني أغلى من دماء الشعب السوري ، الذين قتلهم نظام الأسد و حزب الله و إيران؟!!
الشقُّ الثاني من هذه المقولة يؤيِّدها كل من خذل غزة كتركيا مثلًا, و ينكرها كل من نصر غزة كحزب الله مثلًا ، فمن عليَّ أن أصدِّق ..؟!

ثم دعونا نفرض جدلًا أنَّها صحيحة ، إذًا نستنتج بناءً على ما نسمعه و ما يقال أنَّ أيدولوجيا هذه “الحكومة السورية الجديدة” في التعاطي مع سياستها الداخلية و الخارجية ،مبنية على أن تبغض و تعادي كل من أساء و قتل و ظلم الشعب السوري حسب ادعائها ، و قتل الشعب السوري حسب ادعاءها خطٌّ أحمر ، فعليه تعتبر إيران و حزب الله و أبناء الجيش العربي أعداء لها ، لا يمكن مسامحتهم ، و فكرة قيام هذه الحكومة قائمة على عداوتهم و تستخدم التعبئة الشعبية ضدهم..و روايتهم و سرديتهم و جذريتهم نابع من ملاحقة من قتل و ظلم الشعب السوري حسب منظورهم ..فيحقُّ لنا أن نسأل هذا السؤال ، ألم يقتل الأمريكي و الإسرائيلي و الفرنسي الشعبَ السوري ؟!، فلماذا إذَا يتمُّ عقد اللقاءات معهم و استقبالهم … و كان آخرها استقبال الحاخام الصهيوني المتطرف “لوباتين ضيف” في القصر الجمهوري و لوباتين داعم لإحتلال فلسطين ومن مؤيدي احتلال الجولان السوري وداعم لحرب الإبادة في غزة، ومن عرابي التطبيع بين الإمارات والاحتلال ..لوباتين داعم لتجنيس وتجنيد الدروز السوريين في جيش الاحتلال لقتل العرب والمسلمين وسرقة أراضيهم ..يعمل مع عدة منظمات ضمن مخطط اسرائيلي صهيوني لاختراق العالم العربي والإسلامي عبر القوة الناعمة من اجل صنع قاعدة لتمدد الاحتلال وتوسع نفوذه وعلاقاته ..

و ألم تصدع “الثورة السورية” و “هيئة تحرير الشام” رؤوسنا بأن الروسي يقتل الشعب السوري لماذا إذًا ، التقى أحمد الشرع بالوفد الروسي ، و يبدو أنه سيلتقي بالرئيس بوتين قريبًا؟! …فهذا يتناقضُ نظرية العداوة الجذرية لمن ظلم و قتل الشعب السوري “حسب ادعائهم” ..لماذا؟
و دعونا نغوص أكثر بفكر “هيئة تحرير الشام” و نقيس الأمور من تفكيرهم بشكل أكبر ، حيث بالنسبة لهم الشيعة كفار و هم خطر على الإسلام يجب القضاء عليهم ، و يحقُّ لنا السؤال ، هل الصهيوني مسلمٌ حنيف و من المبشَّرين بالفردوس الأعلى بنظرتكم الدينية أو الطائفية؟! , الصهيوني الذي أنشأ ٧ قواعد عسكرية في سورية و ينفِّذ الغارات تلو الغارات و يقترب أكثر من دمشق و يسلب أراضي المواطنين !!
لم يصدر عن “هيئة تحرير الشام” و/أو “الحكومة السورية الجديدة” بيانُ إدانةٍ واحدٌ , بل و كانت كل تصريحات الجولاني توحي أنَّه لا يوجد بينه و بين “إسرائيل” أي عداوة ، و صرَّح محافظ دمشق “ليس لنا عداوة مع إسرائيل” التي تحتلُّ سوريا، و هنا نستذكر مقولة أخرى للشهيد باسل الأعرج”إيّاك ولو لمرّةٍ واحدةٍ أن تنسى وجود الاحتلال، أو ترى حياتك طبيعيّة في ظل وجوده، وإن حدث ذلك؛ فأنت تزحف للخيانة».
و نستنتج من هذا،أن هذه الحكومة السورية الجديدة المتمثلة بشخص الجولاني (أحمد الشرع) ليست مشكلتها مع إيران أو حزب الله أو النظام من منطلقات طائفية أو تحت ذريعة ما ادَّعت به من جرائم ارتُكِبت بحقِّ السوريين، كل هذه المنطلقات مجرد أدواتٌ يصدِّقها أتباع الصف الثاني و الثالث بهذه المنظومة ، حيث عمق مشكلتها هي تكمن مع كل عدوٍّ للصهيوني ، و الدليل الأكبر هو ما مارسته بحق الفصائل الفلسطينية كما ذُكر ، أي إنَّ كلَّ مَن يقاوم الاحتلال الصهيوني و يرفض الهيمنة الأمريكية هو عدوٌّ لها ، فأبرز أعدائها الآن في سورية المقاومة السورية التي بدأت تتشكل و بدأت تنفذ عمليات ضدَّ العدوِّ الصهيونيِّ ، و عليه إن إيران و حزب الله و الرئيس الأسد عمق الصراع معهم ليس طائفي ولا تحت ما تمَّ توجيهه من اتهاماتٍ لهم بل بسبب موقفهم اتجاه فلسطين ، تنفيذًا لأوامر المشروع الصهيوني الذي تُعتبَر “الحكومة السورية الجديدة” جزءًا منه و الذي ارتقى الشهيد باسل الأعرج مشتبكًا معه..


أبو الأمير-القدس