كتب الأستاذ ناصر قنديل..
– يصعب على الكثيرين الذين يتحدثون عن حرب الطوفان والإسناد التي عاشت المنطقة تحت تأثيرها سنة وأربعة شهور ولا تزال، وعاش العالم تداعياتها ولا يزال، الخروج من مقارنة الخسائر على ضفتي الحرب لتحديد هوية المنتصر والمهزوم. ويغيب عن بال الكثيرين تجاوز النقاش السطحي لمعنى الحرب فيكتفون بربطها بالأهداف المعلنة لطرفيها، ويستخلصون من المقارنة كفة راجحة لصالح المقاومة، مع فشل كيان الاحتلال في تحقيق أي من أهدافه على جبهتي لبنان وغزة، سواء بتثبيت الاحتلال لمنطقة عازلة وما يرتبط بذلك من تهجير للسكان منها، كحال شمال غزة وشريط القرى الأمامية في جنوب لبنان، أو بإنهاء المقاومة ونزع سلاحها أو استعادة الأسرى من غزة بالقوة.
– ما يستحق التمعن في الخيارات الكبرى هو رؤية معادلة بقاء كيان الاحتلال وتفوّقه وسيادة مشروعه الاستراتيجي، ببقاء مشروع تصفية القضية الفلسطينية بالقوة العسكرية فوق الطاولة خياراً وحيداً، بعدما حسم الكيان أمره منذ قتل رئيس وزرائه السابق إسحق رابين، أن لا يسلك طريق التسويات السياسية لحل القضية الفلسطينية، واستطراداً حل الصراع مع الدول العربية سياسياً طلباً للاستقرار القائم على معادلة الأرض مقابل السلام، ليحل مكانه إعلان القدس عاصمة موحّدة ونهائية للكيان وإعلان ضم الجولان وتوسّع الاستيطان في الضفة الغربية وتحويل اتفاقيات أوسلو إلى إطار أمني لتوظيف أجهزة السلطة الفلسطينية في ملاحقة المقاومة وتغطية الاستيطان، والاكتفاء بالحصول على الدعم الأميركي لهذا المشروع، واستثمار الضغوط الأميركية للحصول على التطبيع مع الدول العربية دون أي مقابل ونسيان المقابل المنصوص عليه في المبادرة العربية للسلام والمتمثل بإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية وضمان عودة اللاجئين.
– رغم وجود مقاومات فلسطينية وعربية قوية أثبتت حضورها الميداني طيلة الفترة الممتدة منذ انسحاب جيش الاحتلال من جنوب لبنان قبل خمسة وعشرين عاماً، بقي مشروع تصفية القضية الفلسطينية على الطاولة مشروعاً وحيداً، ورغم ظهور محاولات أميركية خجولة خصوصاً في ولاية الرئيس باراك أوباما لفتح الطريق لعملية سياسية تحت شعار حل الدولتين لا تصيب جوهر المفهوم الإسرائيلي للأمن، تمسكت قيادة الكيان وعلى رأسها رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو بخيار تصفية القضية الفلسطينية عسكرياً، وأغلق الطريق أمام أي بحث سياسي تفاوضي، وتحوّل هذا الخيار الى مشروع سياسي حاكم في الكيان تمثله قوى حزبية منظمة حازت على الأغلبية في الكنيست وشكلت الحكومة الحالية. ومعلوم أن قوام هذه القوى ينتسب الى البيئات الأشد تطرفاً في الكيان، والتي يقوم فهمها العقائدي للكيان على اعتبار الضفة الغربية وضمنها القدس الشرقية الأرض التاريخية للكيان التي لا مجال للتفاوض عليها أو التنازل عنها كلياً أو جزئياً.
– سار نتنياهو بحروبه الناعمة لإكمال التطبيع مع الدول العربية، وتجاهل وجود قضية فلسطينية، واعتبار التحديات التي تمثلها قوى المقاومة مجرد تهديدات أمنية يتم التعامل معها موضعياً وظرفياً، بانتظار لحظة الحسم المناسبة، وعندما خرج مؤتمر نيودلهي لقمة الدول العشرين بإعلان إنشاء طريق الهند أوروبا مروراً بالسعودية والأراضي المحتلة كان معلوماً أن هذه اللحظة تقترب. وبينما كان نتنياهو بدعم أميركي يسعى لقطف لحظة التطبيع مع السعودية، ويعقبها بالانقضاض على قوى المقاومة، وهنا جاء طوفان الأقصى عملاً استباقياً موفقاً أصاب صورة الردع الإسرائيلية في الصميم، وجاءت جبهات الإسناد تعبيراً عن إدراك تاريخية المعركة وطابعها المصيري، إما أن ينجح خيار تصفية القضية الفلسطينية بالقوة العسكرية، أو يسقط.
– قاتلت المقاومة في غزة ولبنان ببسالة منقطعة النظير، وساندت المقاومة العراقية بما استطاعت، وقدّم اليمن نموذجاً استثنائياً في إرباك القدرة الأميركية الرادعة في البحار واستنزافها وفرض إرادته عليها، وبعدما أتيحت للكيان كل العناصر التي يحلم بتوافرها للفوز بهذه الحرب، انتهى به المطاف وهو يوقع على اتفاقيات لوقف إطلاق النار تتضمن ثلاثة عناصر واضحة، الإقرار بعدم تصفية المقاومات العربية وخصوصاً الفلسطينية واللبنانية، والإقرار باستحالة تصفيتها على قاعدة إعلانه بعد طوفان الأقصى وفتح جبهات الإسناد استحالة التساكن مع مقاومات مسلحة على الحدود يعتبرها تهديداً وجودياً لا مجرد تحدٍّ أمني، ثم الإقرار بالانسحاب الكامل من جنوب لبنان وقطاع غزة، والإقرار بسقوط مشاريع التهجير خصوصاً في غزة وما تشكله من حاجة وجوديّة لكسر التوازن الديمغرافي في فلسطين التاريخيّة لصالح استعادة الغلبة اليهوديّة كترجمة لمعنى الدولة اليهودية دون فقدان صفة الديمقراطية عنها.
وكل هذا يعني أنها أكبر وأضخم وأهم وأطول وأقسى حروب المنطقة والكيان، ويعني أن خيار تصفية القضية الفلسطينية بالقوة العسكرية الذي سقط في هذه الحرب، قد سقط نهائياً إلى غير رجعة، لأن لا فرصة لتوفير فرص أفضل لحرب مقبلة تنجز ما لم يتم إنجازه في هذه الحرب.
– في المنطقة والغرب وفي النخبة اليهودية في أميركا خصوصاً، ثقة بأن ما تمت خسارته على مستوى الصورة العامة كبير جداً وغير قابل للترميم، وأن لا مكان لحرب مقبلة، وأن بوليصة التأمين الوحيدة لبقاء «إسرائيل» هي القبول بمقايضة الشرعية الإقليمية بقيام دولة فلسطينية، اي العودة الى السياسة، والتسليم بسقوط خيار تصفية القضية الفلسطينية بالقوة العسكرية. ولكن بالتوازي هناك رفض قاطع من غالبية النخب الحاكمة والمعارضة في الكيان على السواء لأي حل سياسي، ووقف الحرب يراد منه مجرد هدنة لحرب أخرى، لكن الكيان أمام خيارين لا ثالث لهما، إما السير بخطة سياسية لقيام دولة فلسطينية بصيغة ترضي الغالبية الفلسطينية والعربية وتفتح الباب لنيل شرعية سياسية إقليمية للكيان. وهذا ما سوف يسعى الغرب وتعمل المنظمات اليهودية العالمية وربما الجيش والنخب العلمانية لبلورة قيادة سياسية جديدة حاملة لهذا المشروع والمخاطرة بانشقاق المستوطنات عن الكيان لإعلان حكومة انفصالية، وأما الدخول في خيار ثان هو الحرب الأهلية، أو خيار ثالث هو التفكك والتآكل والنزيف الاقتصادي عبر هجرة الرساميل والنزيف البشري عبر موجات هجرة العقول والنخب، كما توقعت مجلة فورين أفيرز الأميركية.