خاض حزب العدالة والتنمية محاولات مُضنية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ حتى اكتشف أن لا مكان له فيه مهما قام بتلبية الطلبات التعجيزية للاتحاد، وأن السبب يعود ببساطة إلى أن الفهم الوظيفي لدور تركيا بالاعتماد على عضويّتها في حلف الناتو لا يستحق بعيون الغرب منح تركيا الميزات الناجمة عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ، خصوصاً مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا وسيادة الإسلاموفوبيا، ولذلك توجّهت تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية شرقاً منذ قرابة العقدين، وشهدت علاقتها بسورية قبل الربيع العربي تحسناً بلغ مراحل غير عادية.
نجح الغرب وعلى رأسه أميركا باستمالة تركيا مجدداً نحو دور وظيفي من خلال إغراء الدعوة لقيادة الربيع العربي وادعاء الغرب بقبول الطموحات التركيّة نحو العثمانية الجديدة، بالاستناد إلى امتلاكها مكانة مميّزة في الإسلام السياسي العربي، خصوصاً في تنظيم الأخوان المسلمين، لكن هذا العرض الغربي لم يستمرّ طويلاً فسرعان ما سهل الغرب رعاية الدول الخليجية لاستعادة مصر وتونس من الحضن العثماني، وإطلاق اليد الإسرائيلية في السعي لاستئصال المكون الأبرز في الإسلام السياسي العربي الذي تمثله حركة حماس.
الحركة الغربية الأوروبية وخصوصاً الأميركية في ملف رفع العقوبات عن سورية تحت الرعاية التركية، ووضع دفتر شروط مثقل بالطلبات يوحي بأن الغرب لم يغادر نظرته للدور الوظيفيّ لتركيا ورفضه السماح بتحوّلها الى لاعب استراتيجي، وليس خافياً حجم التمسك الأميركي بقوات سورية الديمقراطية وخصوصيّتها العسكرية والحفاظ على موارد ثروة خاصة بها من حساب الثروات السورية النفطية، وما يعنيه من رسالة تعطيل للتطلعات التركية بالتخلص من تهديد وجودي يتمثل في رفض تركيا نشوء كيان كرديّ معلن أو خفيّ على حدودها، وسرعان ما يتضح أن هذا الموقف الأميركيّ لا ينفصل عن موقف إسرائيلي ينظر للدور الكردي بصفته محوراً رئيسياً في إعادة ترتيب المشهد الإقليمي، وتأتي الحركة الإسرائيلية في الجغرافيا السورية لتمثل إحراجاً يصعب ابتلاعه على تركيا المتهمة أصلاً بالتخاذل في التعامل مع مشهد المذبحة المفتوحة بحق الفلسطينيّين في غزة.


عملياً تدرك تركيا أن تقسيم سورية وانتهاك سيادتها لصالح كيان الاحتلال استهداف مباشر لمفهوم الأمن القومي التركي، كما تدرك أن صمام الأمان لمنع هذا التدهور يتمثل بالعلاقة التركية الإيرانية، التي تمنع الفتن المذهبية في المنطقة، والتي تستطيع تشكيل ميزان قوى جديداً بوجه التغول الإسرائيلي، ولو بتقسيم وظيفي للأدوار في العلاقة بين المقاومات، حيث لإيران علاقات خاصة بمقاومة لبنان والعراق وبعض المقاومة الفلسطينية، وتحوز تركيا حضوراً فاعلاً في سورية ولها علاقة خاصة بالقوة الأهم في المقاومة الفلسطينية التي تمثلها حماس، بينما يبقى الأهم أن التعاون التركي الإيراني هو الذي أجهض مشروع قيام دولة كردية في شمال العراق بعد استفتاء الانفصال عام 2017 وأن التلاقي على وحدة كيانات المنطقة ورفض نشوء كيان كردي لا يزال مصلحة مشتركة تركيّة إيرانيّة.
تقف تركيا في منطقة حرجة اليوم، وقد خسرت الثقة في علاقتها مع إيران، وهي تكتشف أن الغرب يخدعها مرة أخرى ويتلاعب بها لصالح دور وظيفي لا دوراً استراتيجياً، لكن العلاقات الدوليّة لا تعرف المستحيل، فهل تعيد تركيا مجدداً تموضعها، كما فعلت يوم تأسيس مسار أستانة عندما كانت قد قرّرت المضي في خوض مواجهة مفتوحة مع روسيا قبل أن تكتشف أن الغرب ورّطها وتركها وحيدة؟
لا تبدو روسيا قد فقدت علاقتها بتركيا، خصوصاً أن الإشارات حول بقاء القواعد الروسية في سورية تتزايد، فهل نشهد عودة لمحور روسي إيراني في الوقت ذاته الذي تقف فيه تركيا في قلب حلف الأطلسي، لكنها تصبح مفاوضاً قوياً يستند إلى ظهير لا يمكن الاستهانة به، لكن أنقرة تعلم أن لذلك شرطاً هو استعادة الثقة، وربما تكون التسهيلات التي يمكن أن تمنحها تركيا لحركة حماس بالتعاون مع السلطات الجديدة في سورية، وعبر سورية، هي الجواب، وفيها إشارات تتلقاها إيران، ويتلقاها الغرب!

ناصر قنديل