في تصورات الفلاسفة والمفكرين وتأملاتهم، خافت المجموعات الإنسانية الأولى من الفوضى والعنف وانعدام العدالة والمساواة الناجمة عن الحرية المطلقة للفرد، وكذلك بسبب تدافع البشرية الأولى حيث القوي يرى لنفسه الحق بأن يعتدي على الضعيف، فقط بدافع القوة والحرية المطلقة، فنشأت قوة حرة أخرى لتقيم العدالة ولتنصف المظلوم، فتطور وعي الإنسان تطور ليعرف أن القوة لا تخلق حقاً، والحرية المطلقة لا تبرر التعدي، فما يملكه الضعيف هو له، وإن تفوق الآخرين عليه لا يعطيهم الحق في الحصول على ما يملك لكونه ضعيفاً، فكان لا بد من قوة ناظمة تقوم بمعادلة القوى ليصون الضعيف حقوقه وليلتزم القوي بما له دون تعدٍّ.
تقوم نظرية العقد الاجتماعي، على أساس فكرة الحرية وانتقالها في المجتمع من الحرية المطلقة الطبيعية إلى الحرية المنظمة في سياق دولة، على اعتبار أن الحرية المطلقة تسبب الفوضى وأن الحل لهذه الفوضى يكمن في وضع قواعد ناظمة ومشتركة يلتزم بها الجميع، وهنا يبرز لنا مفهوم التعاقد الاجتماعي بين الأفراد لينشئوا جهة ناظمة لشؤون المجتمع، وهو ما نسميه اليوم بالدولة.
فالعقد الاجتماعي هو اتفاق ضمني بين الأفراد ليؤسسوا مجموعةً أو تنظيماَ يتداول المسؤولية في تحقيق مصالح الأفراد، ويتم ذلك من خلال أن يتنازلوا عن جزءٍ من حقوقهم وحرياتهم المطلقة. فيعمل هذا التنظيم على حماية الحريات المتبقية بعد أن كانت مطلقة، ليصبح اسمها هنا في سياق الدولة والتنظيم بحريات طبيعية. وتتم الحماية لتلك الحريات من خلال ما يسمى بالنظام، وهي الطريقة التي يضعها التنظيم. ويترتب على ذلك أيضاً أن هذه الطريقة (النظام) يحتاج إلى حماية أيضاً، فيتم العمل على إنشاء قوىً تعمل على صيانة هذا النظام فتسمى جيشاً أو تسمى بجهاز الأمن.
إن هذا الترتيب والسياق الطبيعي الذي يصف كيف تنشأ التنظيمات والدول، وكيف يتركز إنشاؤها على صيانة الحقوق والحريات، وكيف ينشأ النظام، وكيف يترتب على إنشاء هذا النظام الحاجة إلى قوة تحميه ليصبح مصاناً، إنَّ كل هذا التطور الطبيعي يشخِّص مفهوم الشرعية في النظام والدولة.
على هذا الأساس، تنصّب هذه النظرية نفسها كمعيارٍ أساسي بدائي حتى نستطيع النظر إلى الأمور بصورتها المجردة لنقيس بها الواقع الذي نعيشه اليوم. وللتأكيد على الفكرة بصورة مغايرة، أقول، لبُّ فكرة العقد الاجتماعي وقيام الدول هو فكرة الحرية المطلقة عند الفرد وما يترتب عنها من حاجة إلى تنظيم وتقنين لهذه الحرية، مما يعني أن قيام الدولة مدفوع الثمن مسبقاً، والثمن هو مقدار الحرية التي تنازل عنها الأفراد للدولة أو التنظيم، ويترتب على ذلك أن الدولة أو التنظيم مدين إلى الأفراد في تحقيق تطلعاتهم ورؤاهم بشكل يصون ما تبقى من حرية عندهم، وبخلاف ذلك تنتفي الشرعية أو يصيبها خلل يحتاج إلى إعادة تصويب وتقويم. فهذه الشرعية تعتمد على وفاء الدولة بوعودها للأفراد، وإلا تفقد تلك الشرعية.
بناءً على ما تقدم، تشكل حركات المقاومة ونشأتها في نظري نوعاً من العقود الاجتماعية بين الأفراد وبين ممثلين لهم ليحققوا لهم مصالحَ مرجوّة، بل إن الأفراد في هذا النوع من العقد الاجتماعي أشد انخراطاً وتفاعلاً مع توجهات الممثلين لهم. وبنظري، يرجع السبب في ذلك إلى أن مقدار الحقوق الذي يتنازلون عنه في الحالة الطبيعية للدولة لتحقق مصالحهم هو حقٌّ مسلوب سلبتهم إياه الجهة المضادة، فاضطر الأفراد إلى التنازل عن حقوق أكثر إلى جهة أخرى تعمل على استعادة تلك الحقوق المسلوبة. فعلى هذا الأساس، إن قيام حركات المقاومة في صورة مجردة هو نتاج إلى خللٍ في الشرعية في الجهة المضادة. وكذلك يعني الأمر أن المقاومة ليست شرعية فقط، وإنما هي قامت لأجل الشرعية بعد أن عادت الفوضى الإنسانية البدائية الأولى إلى المكان. فالمقاومة هي المادة الخام للشرعية ودونها لا تتحقق، فهي القوة التي نشأت في المجتمعات الأولى ساعيةً إلى إقامة العدل، ومن ثم لتنشأ الدولة بعد ذلك من جديد.
آدم السرطاوي-كندا