تتخذ قوى المحور شكل الكتلة التاريخية المكوّنة من دول وأحزاب وحركات وفصائل وتيّارات ومثقفين ووسائل إعلام وصحافيين ومهنيين ومتخصصين ومؤسسات وقطاعات أهليّة ومدنية عربية وغير عربية ومن مختلف الطوائف والمذاهب والتوجهات الفكرية مع منطومة واسعة وعالمية من الحلفاء والأصدقاء وجميعهم من الشعوب والأمم التي تعرضت للقهر والظلم والاستغلال والسحق على يد القوى الإمبريالية والصهيونية العالمية، ويتركز مشروع المحور وكتلته التاريخية وحلفاءه أساساً للانتصار للظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني نتيجة المشروع الصهيوني وفي مواجهة الهيمنة والنهب الإمبريالي الأمريكي والغربي في المنطقة على طريق دحر نظام القطب الأوحد نحو أفق نظام عالمي متعدد الأقطاب، ومنذ الأيّام الأولى لاندلاع طوفان الأقصى أدرك كلا طرفي المعركة أننا أمام معركة مصيرية ووجودية، وهي مصيريّة لأنها ستحدد مستقبل القضية الفلسطينية والمنطقة وبالتالي العالم أيضاً، ووجوديّة لأنّ نتيجتها ستكون إمّا استمرار وجود الكيان وإنهاء وجود كل المشاريع المقاومة والممانعة والمناوئة للإمبريالية والصهيونية العالمية في المنطقة، أو العكس، والعكس هو ما ورد صراحة في خطابات مختلفة لقيادة قوى المحور ليس آخرها خطاب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية حين دعى صراحةً لإزالة الكيان الصهيوني عن سطح الوجود!
ولم يختلف خطاب نتنياهو من حيث إدراكه لطبيعة ومستوى المعركة حين وصفها في أكثر من مرّة أنّها حرب وجودية وأنّ نتيجتها ستعمل على ترسيم “شرق أوسط جديد”، على كلّ وبغض النظر عن الخطابات فإنّ مستوى القتال والدماء يشير أنّ الكيان الصهيوني حرق كل مراكب العودة، وأنّه انتهج نهج المضي قدماً في المعركة إلى خواتيهما النهائية والحاسمة، هذا النهج لم يلق استسلاماً أو تراجعاً من قبل قوى المحور، والتي رأت أنّ حجم التضحيّات التي بذلت في ساحة وغى الطوفان تغلق الباب أمام أي تراجع، وعلى المستوى الدبلوماسي والسياسي يبدو أيضاً أنّ الكيان ومن خلفه النظام الإمبريالي العالمي قد أغلقا كل باب أمام أية حلول دبلوماسيّة أو سياسيّة بعد أن أدركا تماماً صلابة المفاوض المقاوم وذكاءه وحكمته وعدم قبوله بالتراجع عن أيّ من الخطوط الحمراء الواضحة والمحددة من جهة، وأن أي تنازل إضافي من قبل الكيان يعني إقراراً بهزيمة استراتيجية تاريخيّة من الجهة الثانية.
وفي مقابل نهج المحور الملتزم لأبعد حدود ورغم كل الدماء والضحايا والدمار والاستفزازات بمنظومة متكاملة من القيم والالتزام بالمواثيق والقواعد الدوليّة، يستمر الكيان مدعوماً وموجهاً من الولايات المتحدة في انتهاك كافّة الأعراف والمواثيق الدولية والانسانيّة، ويستمر في نهج الهروب المستمر إلى الأمام والتصعيد المستمر والاستفزاز المستمر المترافق مع المجازر الجماعية والارهابية في كل مكان والاغيتالات السياسية المتسلسلة، وقد مثّل اغتيال هنيّة بما يمثّله من رمز فلسطيني عربي مسلم مقاوم ورأس هرم حركة حماس وثمّ اغتيال حسن نصر الله بما يمثّله من رمز لبناني عربي مسلم مقاوم ورأس هرم حزب الله أعلى أشكال التصعيد السياسي الذي يغلق خلفه كل أبواب الحلول الدبلوماسيّة، وقد التقط الفيلسوف الروسي المقرّب من بوتين وصاحب النظرية السياسية الرابعة في مقابل نظريات الليبرالية والاشتراكية والفاشيّة، ألكسندر دوغين الرسائل والمآلات التي قد تنتج عن اغتيال سماحة السيد حسن نصر الله واعتبرها “بداية نهاية العالم” وهي العبارة التي عنون بها مقاله الأخير بالخصوص، وختم المقال بالعبارة التالية: “إنّ مثل هذا العدو الحديدي – يقصد الصهيونية – لا يمكن مواجهته إلّا بقوّة مماثلة في القوّة والعتاد والإصرار على كسر كل القوانين الممكنة وتجاوز أيّة خطوط حمراء، وما إذا كانت مثل هذه القوّة موجودة، هذا ما سنراه قريباً.”
ورغم لغته المحمّلة بالدلالات اللاهوتيّة الدينية، إلّا أنّ عبارة بداية نهاية العالم لم يقصد بها نهاية العالم البشري الدنيوي واقتراب قيام الساعة بالمعنى الديني الموصوف في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، بل قصد بداية نهاية النظام العالمي الحالي، باعتباره رجل العالم المريض والعجوز والوحشي والدموي، وهو النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة ويعتبر المشروع الصهيوني أحد مشاريعه المتقدمة التي تخدم مصالحه وهيمنته، وهو النظام الذي حوّل الانسان لسلعة والحضارة إلى مجزرة واشتغل على افتعال الحروب والفتن في كل مكان، مخلفاً وراءه ملايين الضحايا ومليارات الفقراء ومشاكل بيئية وصحيّة لا تحصى وحضارة كاملة تعيش القلق المستمر وانعدام الأمن والاستقرار، بعد أن وضعت كل مقدرات الكوكب تحت تصرّف ثلّة صغيرة من المستبدين من أصحاب الشركات العملاقة التي تدير الكوكب غير مبالية بأي شيء إلّا تعظيم أرباحها وتأبيد هيمنتها.
وبقراءة التاريخ القريب منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبشكل أكثر تخصيصاً منذ بداية الألفيّة الثالثة، يمكن الاستشفاف أنّ منحنى ربع القرن الأخير عبّر عن تراجع وتقهقر النظام العالمي الحالي (البائد) نحو تشكّل نظام عالميّ جديد، يوصف بأنّه نظام متعدد الأقطاب ومنافي للهيمنة أحادية القطب، وتقهقر النظام العالمي الحالي (البائد) واضح في معظم المؤشرات الرئيسية من مثل إنهيار النموذج القيمي والسياسي والتراجع الاقتصادي وتقلّص الهيمنة الجيوسياسية وفقدان التفوّق العسكري والتفوّق في مجالات الابتكار والاختراع والتقانة الحديثة، لصالح نمو وصعود قوى جديدة نجحت في بناء تحالف متين على قاعدة الالتقاء على العداء المطلق للنظام العالمي الحالي.
المعركة المصيريّة الوجوديّة التي تخوضها شعوب المنطقة وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، تأتي من حيث التوقيت في قاع منحنى انحدار النظام العالمي الإمبريالي والصهيوني، وهي بقراءة تاريخية تأتي كنتيجة موضوعية لهذا الانحدار، أي أنّ المآل التاريخي والمنحنى التاريخي يعمل في خدمة القوى الصاعدة وفي مقدمتهم الشعب والمقاومة الفلسطينيين كرأس حربة وضد القوى البائدة وفي مقدمته المشروع الصهيوني كقاعدة متقدمة للإمبرياليّة، بالإضافة لصيرورة التاريخ فإنّ الحق والقيم والبطولة وأيضاً التفوّق في العقل والإرادة يقع في صف القوى الصاعدة، بحيث تبدو نتيجة المعركة محسومة سلفاً لصالحها!
قد توحي عبارتنا الأخيرة وكأنّها دعوة لانتظار التاريخ والقدر ليفعل فعله ويمحو الظلم ويحق الحق، إلّا أنّه وعلى العكس من هذا الفهم السلبي القَدَري الجبري، ما نريده من عبارتنا هو قول التالي: صيرورة التاريخ والحق في صفنا هذا أكيد، ولكن المسار قد يكون صعباً ومنهكاً ومخضباً بحمامات الدم والشهادة، والطريق الوحيد لتقصير المسافة وخفض عدد الضحايا هو التحاق أكبر قدر من القوى والفاعلين في المعركة واستنهاض كافّة الهمم والطاقات، على مستوى الدول والمؤسسات والأحزاب والتيّارات والمثقفين وغيرها، فالطريق إلى فلسطين ليست بالقريبة ولا البعيدة بل هي مسافة الثورة كما قال ناجي العلي يوماً، هذا من جهة، أمّا من الجهة الثانية، يمكن القول استناداً إلى القراءة الاستراتيجية والتحليل العلمي، وهو الأمر الذي يؤكده العديد من المؤرخين والمحللين والخبراء الصهاينة والأميركان، أنّ زمن الصهيونية قد انتهى وأنّ زوال الكيان بات مسألة وقت، وأنّ قوى المحور لوحدها قادرة على حسم المعركة، وحين تحسمها يكون يوم القيامة قد قام فعلاً وباب التوبة قد أغلق فعلاً، ولن تنفع يومئذ زعماء السياسة ورؤساء الدول وأصحاب الأقلام المأجورة ورؤوس الأموال المجرمة الذين قرروا سلفاً بيع روحهم وضميرهم وشعوبهم ومبادئهم وقيمهم في سوق النخاسة الصهيوني الرخيص، لن تنفعهم يومئذ التوبة، والعاقل هو من يقفز من المركب الغارق إلى المركب الناجي قبل فوات الأوان، فنجوا بنفسك!
علي حمدالله