طالما أطربتنا وسائل الإعلام والصحف والكتب السياسية والاقتصادية ببطولات الغرب الليبرالي وديمقراطيته الزائفة وأفلامه الهوليودية في الدفاع عن حقوق الإنسان ونشر العدالة، وطالما تصدرت أخبار الفضائيات مخططات جديدة لما يسمى ب “الشرق الأوسط” حسب تسمية الدول الاستعمارية له ، فهل حقاً تحكم الاتجاهات العالم أم هي الجغرافيا وإرادة الشعوب؟ .
يعتبر “الشرق الأوسط” منذ بداية القرن الحادي والعشرين مسرحاً للتوتر الأمني والحروب منذ احتلال أميركا للعراق عام 2003، والصراع النووي الإيراني الأميركي، وحرب تموز 2006 في لبنان، وثمّ الحرب على سورية منذ عام 2011 من قبل محور الشر في العالم، أميركا وحلفاؤها في أوروبا وأذيالها في الدول العربية وأدواتها من مرتزقة وإرهابيين من كافة أصقاع العالم، تلك الحرب التي شكلت منعطفاً تاريخياً ليس في المنطقة الإقليمية فحسب بل منعطفاً أعاد رسم خارطة العالم بأجمعه ولكن ليس ببيكار ومسطرة أميركية بل بهندسة أبدعها صمود الشعب السوري وقائده الأمين ومحور المقاومة ودعم الحلفاء روسيا والصين، حيث أدركت روسيا أن سوريا هي خط الدفاع الأول عن روسيا كما وصفها عملاق الجيوبولوتيك ألكسندر دوغين، واستثمرت روسيا فرصتها التاريخية التي لن تتكرر لتصل إلى المياه الدافئة على المتوسط، كل ذلك انعكس بدوره على تعزيز العلاقات الاستراتيجية السورية الروسية في كافة مجالاتها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية بين شعبين تجمعهما روابط إنسانية ونضال مشترك ضد الليبرالية الحديثة والهيمنة الأورو-أميركية.
كما أدركت الصين أيضاً أنّ التاريخ فتح لها بوابة طريق الحرير من جديد والذي تعتبر سورية محطة أساسية فيه.
كما لا يغيب عن أذهاننا اليمن المقاوم قلعة المقاومة التي أثبتت أنّها حصن أخطأ العدو في تقدير قوته، وتحول من هدف استعماري إلى كابوس بحري للسفن الأميركية والبريطانية وأي سفينة داعمة لهما.
بعد كل ما سبق من تغييرات في موازين القوى العالمية منذ بداية القرن الحادي والعشرين وفشل لمخططات أميركية، كان من المنطقي أن يشهد العالم حاضراً مختلفاً عن الماضي، حاضراً كُلِّلَ بطوفان الأقصى في تشرين الأول عام 2023 ، الذي حطم أسطورة الكيان الصهيوني، ويعتبر من أكبر إنجازات محور المقاومة من لبنان إلى سورية والعراق واليمن وإيران، حاضراً أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة أحداث العالم ليرفع العلم الفلسطيني في كل بلدان العالم ليوقظ الإنسانية، وليكشف الوجه الإجرامي للكيان الصهيوني وليضعه في مكانه الصحيح أمام قضاة محكمة العدل الدولية كمجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية.
عقدان وحوالي النصف عقد من الغليان والحروب في منطقة “الشرق الأوسط”، كانت تنضج خلالها جغرافيا لا شرقية ولا غربية، جغرافيا أنهكها الاستعمار في الماضي لتستعيد حريتها ثمّ تصبح منسية، لتعود لتجدل روابطها مع بقية الدول المقاومة رافضةً العودة إلى ماضٍ لا يليق بما تملك من ثروات وموقع استراتيجي ومخازن بشرية ورغبة في الحرية، جغرافيا تمتد عليها قارتا أميركا اللاتينية وإفريقيا وهي كما أطلق عليها الكاتب دانييل رونديه في مقالته في مجلة ناشيونال إنترست مصطلح “الجنوب العالمي”.
لنبدأ بأميركا اللاتينية موطن الأحرار من غيفارا إلى كاسترو، هذه القارة التي تملك أكبر احتياطي من الذهب والنفط والتي أعلنت من الخمسينيات عداءها لأميركا، سواء كوبا التي كانت في حال توتر دائم بعلاقاتها مع أميركا بسبب مواقفها المناهضة للاستعمار، أو فنزويلا المقاومة، التي تعتبر خامس أكبر مصدر للنفط وأكبر احتياطي للذهب، التي كان لها حصتها من الفوضى الأميركية عام 2024 بعد نجاح رئيسها نيكولاس مادورو بولاية ثالثة نظراً لمواقفه المؤيدة لروسيا والصين -القطبين الصاعدَين- ورفضه للجهود الأميركية عام 2022 لعزل فنزويلا عن روسيا.
لو نظرنا إلى المشهد الفنزويلي، نظرة واقعية، لأدركنا أنّه ليس خبراً عابراً بل هو حلقة من حلقات سلسلة التغيير من عالم وحيد القطب إلى عالم متعدد التحالفات بين أقطاب وقوى إقليمية عظمى صاعدة، فالعلاقات الروسية الفنزويلية علاقات متينة خاصة بعد الحرب الأوكرانية حيث كانت فنزويلا حليفاً داعماً وصديقاً مخلصاً لروسيا في مجال إنتاج النفط والغاز والطاقة النووية لفك عزلتها بعد العقوبات الغربية.
أما إفريقيا، القارة السمراء، من غربها مالي والنيجر وبوركينا فاسو الداعمة لروسيا إلى شرقها الرمادي موطن أحفاد الفراعنة، إلى جنوبها حيث أحفاد مانديلا الداعم للقضية الفلسطينية وحقوق الإنسان، إلى شمالها الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد، القارة التي لا تزال كنزاً موضع سباق وبيضة قبان لميزان الاقتصاد لمن يستطيع كسبها حليفاً اقتصادياً في السنوات القادمة، حيث تشير المؤشرات الحالية إلى أنّ الصين وروسيا كانت سباقة بخطوات لأميركا التي صحَت متأخرة.
تملك إفريقيا موقعاً استراتيجياً فاعلاً على صعيد الملاحة والتجارة الدولية حيث تقع عند تقاطع طرق التجارة الرئيسية التي تربط أوروبا وآسيا والأمريكيتين حيث تملك إفريقيا أكثر من /100/ ميناء بحري استراتيجي تتعامل مع 6% من إجمال الشحن البحري العالمي، بالإضافة إلى ثروات القارة السمراء التي تشكل ثلث ثروات العالم حيث تحتل دولها المراكز الأولى في كميات الاحتياطات من الذهب والبوكسيت والكوبالت والألماس والبلاتين والفوفسات الصخري، بالإضافة لدورها الدبلوماسي حيث تملك ثقل تصويتي في الأمم المتحدة -/54/ دولة- لا يستهان به.
كل ذلك جعل من إفريقيا موقع تنافس بين الدول الكبرى روسيا والصين وأميركا، حيث شهدت إفريقيا بعد الحرب الأوكرانية زيارات لممثلي العديد من دول العالم مثل فرنسا وألمانيا وروسيا والصين وأميركا، تجلى ذلك بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران عام 2024 إلى زيمبابوي حيث أكد على أنّ تطوير العلاقات الروسية مع القارة الإفريقية يعد أولوية بالنسبة لروسيا.
كما زحف الصراع الروسي الأوكراني إلى غرب إفريقيا حيث قطعت مالي في آب من العام الحالي علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا لتلعن مع بقية دول الساحل الإفريقي الثلاث نيجر وبوركينا فاسو دعمها لروسيا وتنديدها للإرهاب الدولي، وليترجم الدعم الإفريقي لروسيا عسكرياً بالفيلق الإفريقي ليحل محل قوات فاغنر.
ولا ننسى صرخة العدالة الإنسانية لجنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية ضد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.
كما حققت الجزائر إنجازاً دبلوماسياً حيث حصلت على العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن في عام 2023 والتي طبقت عملياً في بداية عام 2024 حيث أكد الرئيس الجزائري في القمة الروسية الجزائرية في موسكو أنّ ذلك كان بفضل الصديق الروسي.
ولابد من الإشارة إلى التقارب الصيني الإفريقي حيث كانت أول زيارة لوزير خارجية الصين إلى إفريقيا في كانون الثاني من هذا العام منذ 34 عاماً لتشمل مصر وتونس وساحل العاج وجنوب إفريقيا، حيث اعتمدت الصين على كسب الدعم السياسي الإفريقي من خلال استثماراتها الكبيرة في القارة السمراء.
من جانب آخر كان عام 2024 مفصلاً تاريخياً لطرد القوات الفرنسية من قواعدها في إفريقيا.
كل ما سبق من حراك روسي صيني تجاه إفريقيا جعل من خطوات الولايات المتحدة الأميركية لترميم علاقاتها مع إفريقيا خطوات متأخرة، والتي تجلت بالقمة الإفريقية عام 2022 بعد انقطاع ثمان سنوات، وأخيراً بزيارة لرئيس هيئة الأركان الأميركية في حزيران عام 2024 ولقاء عدد من وزراء الدفاع الأفارقة لبحث إمكانية إيجاد مقر لقاعدة الأفريكوم في إفريقيا بدلاً من ألمانيا.
إذاً بعد ربط أحداث القرن الحادي والعشرين مع بعضها وخاصة في العقد الثاني وبعد الاقتراب من نصف العقد الثالث منه، نرى صعوداً سياسياً لجغرافيا لا شرقية ولا غربية، جغرافية لها بوصلة خاصة بها وخطوط عرض مصممة بإرادة مقاومة للاستعمار وعشق للحرية وتمسك بأرض الأجداد وأرض الحضارات، هي الجغرافيا المقاومة وجغرافيا الأحرار من سورية ولبنان والعراق واليمن وإيران، إلى روسيا والصين، إلى أمريكا اللاتينية وإفريقيا، لتكون جميعها شريكاً في تأسيس نظام عالمي جديد تحكمه علاقات ربح-ربح ومصالح مشتركة قائمة على احترام سيادة الدول وكرامة الإنسان، ولترسم مستقبلاً لمواطنيها كما حلم به مانديلا وكاسترو وأحرار العالم مهما كلف ذلك من مقاومة وتضحيات.
أ. ربا غزول – سوريا