في هذه الأيام، أو في اليوم الثالث عشر من الشهر الثامن، نصادف اليوم الذي تم التصريح به عن تطبيع علاقات الكيان مع حكومة الإمارات العربية المتحدة، وليست حكومة الإمارات أولَ من طبع، وإنما سبقها في ذلك حكومة مصر في اتفاقية كامب ديفيد، وكذلك ما يسمى بالسلطة الفلسطينية، والتي نسميها سلطة أوسلو إشهاراً لتلك الاتفاقية مع الكيان، وكذلك حكومة الأردن التي وقعت اتفاقية وادي عربة. وبعد حكومة الإمارات سارعت حكومات البحرين والسودان والمغرب إلى أحضان الصهيونية بالتطبيع.
وهنا أود التأكيد على أمرٍ مهم، هو أنني أقول “حكومات”، ولا أقول الإمارات أو الأردن أو المغرب، لأن توقيع هذه الاتفاقيات كان حداً فاصلاً بين الهوية السياسية لتلك الحكومات والهوية الوطنية لشعوب تلك الدول، حيث أن الشعوب التي تعيش تحت هذه الحكومات قد رفضت موقف التطبيع لتعارضه مع الهوية ومع المنطلقات الوطنية. بل عملت الشعوب على مناهضة التطبيع طوال الأيام التي مر بها بالمبادرات الشعبية وبتشكيل التحالفات والمؤسسات الخاصة بذلك، فكانَ رفضاً مستمراً منذ اليوم الذي وُقعت فيه هذه الاتفاقيات، وتم التأكيد على هذا الرفض أيام الطوفان.
عوداً على بدء، إن ما توحي به كلمة تطبيع هو تغيير لواقع غير طبيعي، وعلى هذا الواقع أن يصبح طبيعياً بدلاً من أن يكون مرفوضاً غريباً، فكأننا هنا في حالة الكيان الصهيوني نتحدث عن عملية إقناع لمن يرفض وجود الكيان ويراه غريباً. ومنطقياً، لا بد أن القائم على التطبيع قد فكر ملياً بأن هناكَ أجيالاً ستنشأ على مقاعد الدراسة منذ الطفولة، فلا بد أن تتم عملية تغييب الحقيقة عن تلك الأجيال بدلاً من بذل الجهود المستمرة في عملية الإقناع بالتطبيع بشكل مستمر. وبناءً على هذا المنطق وُضعت بنودٌ ثقافية في معاهدة وادي عربة، تعمل على دمج ثقافة الصهيوني بثقافة ابن بلاد الشام، وإننا عندما نقول كلمة ثقافة، فإننا نتحدث عن منظومة المقبول والمرفوض لدى الفرد من أفكار وسلوكيات على المستوى اليومي. وكذلك، قيامُ حكومة الإمارات بالإعلان عن مفهوم الديانات الإبراهيمية يقع تحت مظلة التطبيع الثقافي نفسها، حيث الدين يشكل البوصلة في حياة الإنسان، والتطبيع مع الكيانِ دينياً يعني أن البوصلة الدينية تتفق مع الأفكار الصهيونية في بعدها العقائدي.
لغاية اتضاح صورة التطبيع لدينا وباعتباره ديناميكية متحركة، فإنه علينا أن نقوم بتحريك ديناميكية التطبيع (الإقناع) إلى المستقبل – مفترضين بأنها ديناميكية ناجحة- حتى نستطيع أن نراها بصورتها الكاملة وإلى ما ستؤول إليه في سياق بلاد الشام والوطن العربي، عندها سنجد بأن الوسط العربي حول فلسطين يتغير نحول قبول الوجود الصهيوني باعتباره مكوناً طبيعياً في المنطقة. وإننا قبل الوصول لطبيعية الكيان بيننا في بلاد الشام، فإن هذه الديناميكية (الإقناع) لا بد أن تجري على مراحل لا يمكن تجاوزها، وقد وضع لها علماء النفس الكثير من النماذج في تحليل المراحل النفسية التي يمر بها الإنسان من منطقة الرفض التام إلى منطقة القبول، ومن أشهر هذه النماذج هو نموذج بروس تاكمان Bruce Tuckman والذي إذا ما أسقطناه على حالة التطبيع لوجدناه يفسر الأحداث التي اتبعتها الحكومات وشهدناها في فرض اتفاقياتها والتي أوصلتنا إلى ما هي عليه غزة اليوم. يحلل نموذج تاكمان عملية الإقناع بتفصيلها إلى مراحل، تبدأ أولاً بالتشكيل Forming حيث يتوافق أصحاب المشروع فيما بينهم على خارطة الطريق التي يريدون عبورها من خلال وضع خطة تضمن اتفاق جميع القائمين عليها، وهو أمرٌ لم يواجه من التحديات الكثير في حالة الحكومات التي طبعت، إلا أن سوريا ودولاً أخرى وقفت موقفاً صلباً رافضاً منذ البداية. ومن ثم تأتي مرحلة الاصطدام Storming والتي تعبر عن الإعلان الصادم كالذي حدث في وادي عربة وأوسلو والتي تفسر نزول الناس إلى الشارع معبرين عن الرفض والشعور بحالة الاصطدام لتأتي بعدها مرحلة التوافق Norming والتي جعلت الناس يعودون إلى منازلهم بعد فقدان أي أملٍ بالتغيير، يعودون لبيوتهم ولا يهم إن كانوا فرحين أم ساخطين، وأخيراً تأتي مرحلة الأدء Performing والتي تقضي بسير التعاملات التجارية والإعلامية والسياسية والثقافية والأمنية والتي تتضمن الكثير من المغريات المادية والمعنوية التي تستهدف الشعوب التي كانت غاضبةً بالأمس، ليستمر الأمر على ذلك وتأتي مرحلة الإتمام Adjourning وهي المرحلة التي تشكل إتمام عملية التغيير ونجاح عملية الإقناع والتطبيع حيث يكون الكيان الصهيوني قد أصبح وجوده طبيعياً في المنطقة حينها.
إننا إذا ما تأملنا في هذا النموذج فإننا نستطيع الخروج بثلاثة محاور لما تعنيه عملية التطبيع حقاً، أولاً، أن حقيقة عملية التطبيع هي عملية حصار للمقاومة وللحاضنة التي ترفض وجود الكيان، وأنه حتى من دون النظر إلى النموذج فإن كلمة التطبيع تعني بأن تصبح المقاومة في مقام الغريبِ بين المجتمعات. ثانياً أننا إذا ما حركنا عملية التطبيع ودفعناها للمستقبل مروراً بمراحل تاكمان Tuckman فإننا نعلم بأن ما يلي عملية الحصار هو الاقتلاع من الجذور لكل شيء غريب، مما يعني أن ما يحدث في غزة اليوم قد كان ضمن الخطة وقد كان أمراً معلوماً في الخط الزمني عند الدول التي طبعت، وبتعبيرٍ آخر، التطبيع من هذا المنظور هو انتزاع المقاومة بعد الوصول إلى مستوىً مقبول من الرضا الشعبي – طبعاً أقول ذلك تحت فرضية نجاح ديناميكية التطبيع كما خططوا لها-، والمحور الثالث أن حقيقة عملية التطبيع لا تقتصر على أن يكون وجود الكيان الصهيوني طبيعياً، بل هي حالةٌ من أسرلة المجتمعات حيث لا تنتهي المجتمعات بقبولها بوجود الكيان بينها فقط، وإنما ينتهي الحال بالمجتمعات بترك معتقداتها ومبادئها وقوميتها وأفكارها الوطنية لتصبح مجتعاتٍ على القياس الصهيوني (أسرَلَة).
أدم السرطاوي – كندا