بعد اقترابنا من الشهر الخامس عشر لطوفان الأقصى، نستحضر بعض المراجعات السريعة:

(أولاً)
أدرك الكيان مبكراً أنّه أمام خطر وجودي، لذلك ذهب لخيار حرب وجودية، واستناداً لهذا التعريف، صمم خططه وآليات عمله، واستناداً لهذا التعريف قرر أن يرمي بكل ثقله في هذه الحرب وحرق كل مراكب عودته، إذ أدرك جوهر طبيعتها: “أن تكون، أو لا تكون.”
استناداً لتعريف الطوفان باعتباره تهديد وجودي، كان الكيان أمام خيارين مطلقين، الدفاع المطلق أو الهجوم المطلق، وبهذا أمام التهديد الوجودي ذهب لخيار الحرب الوجودية، وبمنظور الحرب الوجودية فإنّ هزيمته تعني زواله، ولكن انتصاره سيعني تعويض كل خسائره الاستراتيجية والتكتيكية بالحرب، ليس ذلك فقط بل تعزيزها.
ظهرت لحظة الإدراك هذه بشكلها الجلي، بعد خطاب نتنياهو في الكونجرس الأمريكي، والذي تبعه سلسلة كثيفة من التصعيد والهجوم المستمر، وكان تحليلنا في حينه، أنّ الكيان أدرك أن استمرار إطار المعركة بشكل الحالي (ما قبل خطاب الكونجرس) سيعني حتماً هزيمة استراتيجية كبرى للكيان، فكان لا بد إذن من التفلّت من إطار حرب الاستنزاف واستعادة زمام المبادة وشن هجمات كثيفة ومتصاعدة.

أدرك الكيان أنّه أمام تهديد وجودي، وفي مواجهة هذا التهديد ذهب لخيار شن حرب وجودية ضد كل أعداءه، فهل أدركت قوى المقاومة أنّها كانت تحت تهديد وجودي محدق وقريب؟

(ثانياً)
تحديد طبيعة التهديد وحقيقة المعركة هو حجر أساسي لتحديد شكل وخطط وآليات خوضها…

  • حين عرفها الكيان أنّها وجودية، إذن فقد وضع كل ثقله وموارده فيها.
  • وإذا كانت قوى المقاومة لم تدرك أنّ الكيان قلب التهديد الوجودي إلى حرب وجودية أمام أعداءه، هذا يعني أنّها لم تدخل الحرب بكل ثقلها ومواردها.
  • الاختلال في فهم وتعريف الحرب بين طرفي الصراع، نتج عنه عدم توازن في إدراك طبيعتها ومصائرها ومآلاتها، هذا انعكس على شكل عدم توازن، واختلال في حجم ووزن القوى الحيوية التي زجّت في المعركة، حيث رجحت الكفّة لصالح الكيان.
  • أقصد بالقوى الحيوية، هي الموارد الشاملة التي تم تفعيلها في المعركة، مقابل حجم الموارد التي تم تخزينها وتخصيصها باعتبارها موارد احتياط أو موارد استراتيجية لجولات أخرى أو موارد للاستخدام في المنظور بعيد المدى.
  • لنقل على سبيل المثال التوضيحي أنّ الكيان فعّل 90% من موارده، أي أنّ 90% من موارده صارت فاعلة وحيوية في المعركة، وذهب لتفعيل تسعة أعشار موارده لأنّه أدرك طبيعة الحرب الوجودية.
  • في مقابل ذلك، كم فعّلت قوى منهاضة الكيان من موارد؟ ما نسبة الموارد التي زجّت بها القوى الجيوسياسية المختلفة في هذه الحرب؟ إنّ نسبة الموارد التي يتم تفعليها مقابل موارد الاحتياط والتحوّط، تتأثر بعدة عوامل أهمها فهم طبيعة المعركة، وتلك القوى التي اعتقدت أنها في جولة، زجّت إلى الحرب جزء محدود من مواردها. في مقابل الكيان الذي ذهب إلى لعبة all in، أي الرهان بكل شيء. هذا يعني الذهاب لخيار all out أي اللعب بلا سقوف.
  • في خيار all in، الرهان بكل شيء، وهو مصطلح دارج في لعب القمار – البوكر تحديداً – يذهب اللاعب في لحظة حسم وجودية على طاولة القمار، إلى الرهان بكل ما يملكه، فإمّا أن يخسر كل شيء ويخرج عن الطاولة، وإمّا أن يربح أضعاف ما راهن به، أي أن يربح كل ما هو على الطاولة.
  • في مقابل هذا الخيار، يبدو أنّ أعداء الكيان دخلوا اللعبة باعتبارها جولة في سهرة طويلة. ولم يدركوا أنّ “ساندريلا” لن تنتظر لنهاية السهرة، وستغادر مباشرة في منتصف الليل.

(ثالثاً)
بعد حوالي 15 شهراً من الطوفان، وفي حال ظلّت قوى المقاومة أسيرة تعريفها ضيّق الأفق لطبيعة المعركة – باعتبارها جولة- ففي أغلب الظن وبدرجة عالية من حسرة اليقين العلمي، فإنّ هذه القوى ستستيقظ على أصوات حشود متعددة الجنسيات على تخوم أسوارها، بالتزامن مع قلاقل داخلية واضطرابات، أي أنّ قلعتها التي أحصنت بناءها على عقود ستنهار بين غمضة العين وإفاقتها.

(رابعاً)
يعلمنا التاريخ من القرن الماضي وربع القرن الحالي، أنّه في زمن الإمبريالية التوسعية المتدفقة (السائلة) فإنّ نموذج الدولة-القلعة مآله السقوط دوماً، أو في أحسن الأحوال العزلة والتآكل التدريجي كما حصل للعديد من الدول المناهضة للهيمنة ومنها كوبا.
هذا المآل والنتيجة شبه حتمية، فلا يوجد نموذج دولة-قلعة ومهما بلغت عوامل قوّته الذاتية قادر على الصمود أمام هجمة إمبريالية عالمية ساحقة في عقر داره وعلى تخوم أسواره.

ما الحل؟ لنتعلم من روسيا.
كيف واجهت روسيا خطر الناتو المحدق على أسوارها؟؟

استبقته بالهجوم والتمدد خارج حدودها،،، في أوكرانيا. ولو تلكأت هنيهة، لكان سقط نظام ومشروع بوتين،، خلال 24 ساعة فقط. نعم خلال يوم واحد فقط، وهذا تقدير حقيقي لزمن سقوط الدول في زمن الإمبريالية في هذا القرن وليس مجازاً ولا مبالغة، وخلال يوم واحد كنّا قد رأينا حاكماً جديداً في قصر الكرملين باسم أبومحمد الأوكراني!
(خامساً)
في لحظات التحوّلات العالمية الكرى، فإنّ خيارات الردع المتبادل أو استعادة توازن الرعب هي محض خيال، خاصّة أنّ الكيان يتصرّف بكامله باعتبارها حرباً وجودية.
قياساً على ذلك، فإنّ الصفقة الهشّة في لبنانن ستعرض لبنان دولة وشعباً ومقاومةً لمزيد من التنكيل والتدمير والسحق، وربما ستعرضه لنماذج من المايكرو إبادة، أو الإبادة المحليّة أو النقطية.
إنّ افتراض التزام الكيان بأي صفقة هو افتراض غير دقيق، قائم على عدم تقدير اللحظة التاريخية بوصفها لحظة تحوّلات كبرى وعلى عدم تقدير طبيعة الحرب التي يخوضها الكيان باعتبارها حرباً وجودياً في مواجهة تهديد وجودي.

(سادساً)
في الفترة التي تقوم بها قوى مناهضة الهيمنة بالكثير من الحسابات الحذرة والدقيقة، كان الكيان يتصرّف باندفاع وجرأة وحزم وحسم، مستفيداً من فارق زمن الحرب على طرفيها، هذا الفارق ناجم عن عاملين: عدم التوازن في تعريفها، وعدم التوازن في مستوى الاندفاع، ونتج عن ذلك أنّ زمن الحرب التي يضخوضها الكيان أسرع وأكثف من زمن الحرب التي يخوضها من يقاومه.

في البداية، أي قبل لحظة خطاب نتنياهو في الكونجرس، ربما كان تقدير قوى المقاومة أنّ زخم اندفاع الكيان سينتهي عند حد معيّن، وبالتالي من الممكن في تلك اللحظة شنّ هجوم مضاد كاسح.
ولكن هناك عامل أساسي، يبدو أنّه تم إغفاله في المعادلة أعلاه، وهو أثر زخم اندفاع الكيان على تدمير عوامل القوّة الذاتية عند قوى المناهضة أو المق//اوم//ة، وأثر ذلك على إفقادها عنصر المبادرة وعنصر المباغتة وتدمير مواردها اللازمة لشن الهجوم المضاد الموصوف.

(سابعاً)
هل فات الأوان؟
إن تمدد الكيان في أكثر من جبهة يشكل تهديداً وجودياً كبيراً ليس فقط لقوى المقاومة بل للأمّة العربية والإسلامية. ولكنّه في نفس الوقت يوفّر فرصة، خاصة مع اتساع رقعة الحرب وبالتالي اتساع مواقع استهداف الكيان، وأيضاً مع تعزز وتزايد عوامل استنزاف الكيان.
بالتالي، فأنّ تمدد الكيان هو تهديد وجودي وفرصة في آن، وليس أمامنا إلّا أياماً معدودة ليتحوّل تهديد الكيان الوجودي إلى نصر وجودي للإمبريالية والصهيونية على الأمتين العربية والإسلامية في واحدة من أكثر مواقع كوكب الأرض تأثيراً على مصائر البشر والشعوب! حينها لن ينفع الندم وسيكون قطار التاريخ تحرّك، ولن نكون من هذا القطار إلّا حطبه ووقوده.

علي حمداللهنابلس